قضايا وآراء

الحرب الإسرائيلية على غزة وعزلة أميركا

| د. قحطان السيوفي

أدت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى نتائج كارثية على المستوى الإنساني، عجزت خلالها جميع المؤسسات والهيئات الأممية، عن وقف مؤقت للحرب التي سفكت ولا تزال دماء وأرواح آلاف الفلسطينيين، جلهم من الأطفال والنساء، مع تأييد أميركي مطلق لإسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، وهذا ما يطرح سؤالا مهماً، عن الهوية الحضارية للولايات المتحدة، في التعامل مع القوانين الدولية والقضايا الحقوقية والإنسانية، حيث وضعت العالم أمام واقع مؤلم ومعكوس، تقوم خلاله الإدارة الأميركية، باسترضاء إسرائيل، ومنح رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر، لتحقيق طموحاته الإجرامية بالإبادة الجماعية للمدنيين في غزة.

بالمقابل الرئيس الأميركي جو بايدن أحد أكثر الرؤساء افتقاراً إلى الشعبية في التاريخ الأميركي الحديث، وحسب استطلاعات مؤسسة «غالوب»، فإن معدلات تأييده أقل من تلك التي نالها أي رئيس يشرع في حملة إعادة انتخابه، وبعيداً عن موضوع تقدمه في العمر، يوجد إجماع عام بالإخفاق السياسي الكبير لرئاسته ولعل الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة، التي يدعمها بايدن بشكل مطلق، ساهمت في تراجع شعبيته أكثر، بل عزلته داخليا وعزلت أميركا عالمياً، حيث تدور حرب غزة بين طرفين؛ جيش الكيان الصهيوني من جهة، والمقاومة الفلسطينية، من جهة أخرى.

لكن على مدى الشرق الأوسط الأوسع، من خان يونس إلى باب المندب، تدور بين جيش الكيان الصهيوني مدعوماً من إدارة بايدن وأساطيله التي حضرت فور اندلاع الحرب، وتنظيمات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن.

وتحظى إسرائيل بدعم أميركي وغربي غير محدود، في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.

الحرب الإسرائيلية على غزة عمّقت انقسام العالم، ومعارك «الفيتو» المتبادلة في مجلس الأمن أكدت ذلك، بعد أن سبقت مظاهرات الشوارعُ مراكزَ القرارات الرسمية في إدانة المذبحة الإسرائيلية بالإبادة الجماعية التي لم يعد الضمير الإنساني قادراً على التغاضي عنها، ما جعل الولايات المتحدة ضحية العزلة بسبب تأييدها المطلق للعدوان الإسرائيلي.

وتحاول واشنطن عبثا بدبلوماسيتها كثيرة الحركة وقليلة المردود، أن تتجنَّب المسؤولية الأولى عن هذه الحرب، إلا أنها لا تفلح، فهي ما تزال في نظر العالم الشريك المباشر فيها إن لم نقل عرّابها الأول.

منذ بدء عملية السابع من تشرين الأول الفدائية، دُمج الموقف والسلوك الأميركي بالموقف الذي صمَّمه نتنياهو، ولا تُنسى دعوات أميركا لحلفائها الغربيين أن يحذوا حذوها في التنديد والإدانة.

أقامت الدبلوماسية الأميركية سداً يحول دون مجرد المطالبة بوقف لإطلاق النار ولو لأسباب إنسانية وعرض هدن مؤقتة، ذلك مع تزويد إسرائيل بالأسلحة المتطورة لقتل الفلسطينيين، وظهر مصطلح دقيق في وصف السياسة الأميركية: «كل الدعم لإسرائيل، وكل الحركة غير المجدية للفلسطينيين».

العرب، معظمهم، يقيمون علاقات إيجابية مع أميركا، وفي مرحلة ما قبل حرب إسرائيل ظهرت مؤشرات جدية، وهو استكمال حلقات التطبيع وفق منطق «حل القضية الفلسطينية على الأساس الذي اصطلح العالم كله عليه، بصيغة حل الدولتين.

عملية السابع من تشرين الأول الفدائية كانت بقوة زلزال ضرب المعادلات السياسية السائدة، إلا أن الرَّد الإسرائيلي عليها، تجاوز كل الحدود، وتحول إلى حرب إبادة لأهل غزة، مع حرب شرسة في الضفة، ذلك مع مضاعفة وتطوير الاستيطان وكأنَّ إسرائيل كانت في انتظار ذريعة لتفعل كل ذلك.

هذه الاشتعالات التي أنتجتها المغالاة الإسرائيلية في حربها على الفلسطينيين، مع احتمال اتساع هذه الحرب إلى إقليمية، جعل الإدارة الأميركية تشعر أن النار تتجه لمناطق صداقاتها ونفوذها الإقليمي.

أميركا لم تعالج الجموح الإسرائيلي المسبب لكل هذه الاشتعالات، بل عملت على استرضائه والطلب من الآخرين التكيف معه، مع أنها ووجهت بمواقف عربية صريحة وشديدة الوضوح، تجاه القضية الفلسطينية.

الدول العربية الست التي اجتمعت في القاهرة مؤخراً وقبلها القمم العربية والإسلامية، وضعت المبادرة العربية للسلام على الطاولة، وطلبوا من أميركا إعادة قراءتها من جديد، واعتبارها الوصفة الناجعة كحل مقابل تطبيع كامل وشامل، مع الكيان الصهيوني الغاصب.

مؤخراً نُقل عن وزير خارجية أميركا وقبله عن رئيسها تحذيرهما لإسرائيل من عزلة دولية إذا ما استمرت في حربها على غزة، وإذا ما واصلت الحرب باجتياح رفح، وهذا التحذير لا يخص إسرائيل وحدها، لأن هذه الأخيرة جرت أميركا إلى عزلة دولية عن الأصدقاء والحلفاء والشعوب، واضطرت واشنطن أكثر من مرة لأن تقف وحدها في المحافل الدولية للدفاع عن حليفتها، إسرائيل، في مجلس الأمن الدولي واستخدمت الولايات المتحدة 3 مرات حق النقض لمنع صدور قرار يدعو إلى «وقف إطلاق نار إنساني» في القطاع، لكنها خرجت، على استحياء، من عزلتها في مجلس الأمن الدولي بقرارها الامتناع عن التصويت في المرة الأخيرة.

وقبل ذلك بأسبوع، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تجد الولايات المتحدة بين سائر شركائها الأوروبيين سوى النمسا وجمهورية التشيك في التصويت ضد قرار يدعو إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، وهذا الوضع ينعكس سلباً على صورة عزلة الولايات المتحدة في العالم.

ونذكر بموقف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي أعلن، في معرض دفاعه عن إسرائيل، أنه يزور إسرائيل كيهودي وليس وزيرا للخارجة في أول زيارة له بعد طوفان الأقصى، بالمقابل أثارت ردود الفعل العربية والإسلامية الغاضبة، تجاه الموقف الأميركي من الحرب الإسرائيلية على غزة، تساؤلات عدة بشأن مستقبل العلاقات الأميركية مع الدول العربية منذ بدء الأزمة.

لقد بدا واضحاً مدى فقدان واشنطن قدرتها على ضبط مؤشرات التوازن تجاه خلفيات الحرب وتطوراتها وتهافت المسؤولين الأميركيين، على تل أبيب، وتلبية مطالبها المادية والمعنوية، في مقابل تجاهل حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وتقرير مصيره وتخلي الولايات المتحدة الأميركية عن حيادها، وتورطها كطرف أساسي وشريك في سفك دماء الأبرياء من المدنيين.

زاد من وتيرة السخط الشعبي تجاه ردود الفعل الأميركية، اعتماد الإدارة الأميركية مقاربات غير مقبولة، إقليمياً ودولياً، لتعليل الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وذلك من قبيل الترديد المتكرر لعبارة «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها»، حيث الولايات المتحدة أصبحت معزولة عن الحقيقة.

بعد أشهر من سفك الدم الفلسطيني، اكتشفت إدارة بايدن أنها وضعت شعوب وحكومات العالم أجمع، أمام معضلة أخلاقية غير مسبوقة في غزة، باتت بسببها هذه الشعوب، وفي مقدمتها العرب والمسلمون، تؤمن بعدم جدوى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، في حماية المستضعفين وقت الحروب والأزمات، بل تحولت أميركا لـ«شرطي العالم»، يدعم بشراسة حليفته إسرائيل، في القتل الجماعي ومنع الماء والغذاء والدواء والوقود عن المدنيين في غزة.

كل الأميركيين، مهددون على المديين المتوسط والبعيد، بعزلة دولية على كل الصعد والمستويات، لأن سلوك حكومتهم الراهنة، أفقد البلاد حوارها الحضاري مع العالم، وساهم في صناعة عداوات دفينة، يُتوقع لها أن تتحول بفعل الدماء البريئة المهدرة في المنطقة، إلى «إرهاب عابر للحدود»، وستشهد خريطة التحالفات الدولية والإقليمية، تحولات غير مسبوقة، سينعم خلالها منافسو واشنطن بمكاسب تجارية وإستراتيجية موجعة للمستقبل الأميركي.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن