في الثامن من شهر آذار الماضي أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن قرار ببناء رصيف بحري عائم عند ساحل قطاع غزة لنقل المساعدات الإنسانية الغذائية لسكان القطاع، وكلف الجيش الأميركي بالعمل فوراً في بنائه، وفي العاشر من الشهر ذاته حاول المحلل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت» رون بن يشاي استعراض الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي لبناء هذا الرصيف وحددها على طريقته بالتالي:
أولاً- استقبال كميات كبيرة من مواد المساعدات الإنسانية الغذائية لسكان القطاع بعشرات الأضعاف تنقلها سيارات شاحنة من الرصيف.
ثانياً- مساعدة إسرائيل في نقل المساعدات من موقع الرصيف في شمال القطاع وهو قليل السكان ويتيح لها إدارة التوزيع كما تشاء من دون عوائق ومخاوف.
ثالثاً- إرضاء الجمهور الانتخابي الأميركي وخاصة المسلمين والعرب وإقناعهم بأن هذا المشروع يوجه ضربة لليمين الإسرائيلي المتشدد الذي يتزعمه إيتامار بن غافير وباتسليئيل سموتريتش ويعزز شعبية بايدن.
رابعاً- تقدم واشنطن فرصة لنتنياهو لتحريره من الالتزام بمواقف بن غافير وسموتريتش التي ترفض إدخال المساعدات، وبوساطة هذا المشروع تصبح منظمات المساعدات تحت إشراف سياسة أميركا وإسرائيل.
جميع هذه الأسباب الظاهرية لا تعني شيئاً أمام الشكوك التي يثيرها المشروع بالاتفاق مع الكيان الإسرائيلي وموافقته، لأن الجميع يعرف أن واشنطن تستطيع إعطاء أوامرها لنتنياهو منذ فترة طويلة بفتح معبر غزة من جهة رفح وعدم منع المساعدات أو عرقلتها، بل تستطيع أن تستخدم ميناء أسدود لاستقبال المواد ونقلها براً عبر معبر أبو سالم دونما حاجة لرصيف يستخدم لأهداف أخرى، وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أثناء زيارته إلى تل أبيب في كانون الثاني الماضي قد طلب من المسؤولين الإسرائيليين استقبال مساعدات غذائية عبر البحر من قبرص إلى ميناء أسدود ثم نقلها بالبر عبر بوابة كرم أبو سالم عند حدود القطاع إلى الفلسطينيين، وتحدث مع مسؤولين آخرين أوروبيين وبريطانيين حول الفكرة نفسها لأن أسدود لا تبعد سوى 25 كيلومتراً عن شمال القطاع، وسيصبح النقل بسيارات إسرائيلية سهلاً وبإشراف مباشر أميركي- إسرائيلي، لكن نتنياهو رفض الموافقة لأن هدفه الإستراتيجي هو تهجير أكبر عدد من الفلسطينيين في القطاع عبر معبر رفح تمهيداً لتشتيتهم في دول أخرى ومنع وصول المساعدات لهم لكي يضطروا بموجب اعتقاده إلى التخلي عن بقائهم في أراضيهم، وتراجعت واشنطن عن هذا المشروع المنطقي منذ ذلك الوقت أي خلال ثلاثة أشهر، بانتظار نتائج الاجتياح الإسرائيلي إلى شمال ووسط القطاع وتهجيرهم، وحين أخفق مشروع تهجيرهم أعلنت في آذار عن الرصيف البحري بتمويل قطري من دون أن تتمكن حكومة بنيامين نتنياهو من رفض هذا الدور الأميركي المباشر على ساحل القطاع، وبالمقابل رأت مجلة «كومباس» في 29 آذار الماضي أن شكوكاً كثيرة تحيط بهذا المشروع الأميركي، الذي يضع الأميركيين في منطقة حقول الغاز التابعة للمياه الاقتصادية لقطاع غزة التي لا تبعد عن ساحل القطاع سوى 30 إلى 35 كيلومتراً.
ويذكر أن شركة بريطانية هي التي كشفت عن هذه الحقول عام 1999 بتكليف من الرئيس الراحل ياسر عرفات وتبين وجود كميات هائلة وبتكاليف قليلة جداً لاستخراجه، وكان نتنياهو قد أعد اجتماعاً في شهر تشرين الثاني الماضي أثناء الحرب على القطاع مع شركات أوروبية لهذا الغرض أيضاً، لكن وجود أميركا الآن سيغير الصورة، وترى مجلة «كومباس» أن واشنطن تطمح إلى السيطرة على هذا الغاز باتفاق مع الفلسطينيين وقطر، وهذا ما أقلق نتنياهو الذي لا يرغب بوجود قطر وتركيا حليفتها في موضوع الغاز خصوصاً بعد تنفيذ الخطة الأميركية لتطوير الرصيف إلى ميناء كامل بحري قادر على خدمة منصات الغاز والربط بين آسيا وأوروبا وإعطاء واشنطن وجوداً في شرقي المتوسط.
وبهذا الشكل يسعى بايدن إلى منافسة المشروع الصيني المعروف باسم مشروع طريق الحزام الصيني الذي يربط بين آسيا وأوروبا، وربما يستخدم ضغوطه في منطقة، جميع المجاورين فيها من حلفاء أو أصدقاء واشنطن، لفرض مشروع أميركي بإعادة إعمار القطاع المدمر بشكل شبه كامل تساهم فيه أموال الفلسطينيين الناتجة عن حقول الغاز على غرار مشروع مارشال الأميركي الذي أعاد بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية في أوروبا بأموال ألمانيا.
هذه الاحتمالات بدأت تتداولها مصادر كثيرة وتبني عليها مشاريع سياسية لشرق أوسط أميركي- إسرائيلي جديد.