وأد القروض التشغيلية
| علي هاشم
دون مواربة، أعلن «مصدر مصرفي» أن «أحداً لم يتقدم لاستجرار القرض التشغيلي» الذي أنفقت مصارفنا الحكومية على «دراسته» قرابة عام كان لكل يوم منه أهميته البالغة في هذه الحقبة الاستثنائية من حياة الاقتصاد الوطني، آملين منه تلطيف منحنيات الإنتاج المتقهقرة وإعادة التوازن إلى ميزاننا التجاري. وها قد عدنا بخفي حنين!
الفشل الذي حصدته مصارفنا وعجزها عن ابتداع «صيغة» واقعية لهذا القرض التقليدي، لا يزال قابلاً للتجدد، فما قاله «المصدر المصرفي» منحياً باللائمة في الإحجام عن استجرار القرض «بسبب قصر فترة سداده» رغم الحاجة المؤكدة التي يبديها قطاع الأعمال للتمويل، إنما يؤشر إلى سطحية العمل المصرفي وعبث انتظار حلول ما قد يبدعها وفق إمكانياته العليلة هذه!
فمن حيث المبدأ، يمكن القول إن فترة السداد «القصيرة» لا تشكل أدنى عائق تجاه تدفق القروض التشغيلية إلى طالبيها، إذ إن هذا النوع من القروض يستهدف في معظمه تمويل المواد الأولية وبعض العدد التي تعد «مدة عام» أكثر من كافية لاكتمال دروة إنتاجها وتصريف سلعها.. ومع سقوط هذا التفسير «المرواغ» للفشل، فهل لم يبق أمامنا سوى التوقع بأن المنشآت الإنتاجية ليست بحاجة للقرض؟
في الواقع، تشكل القروض التشغيلية والتمويل عموماً أحد المتطلبات العليا للمؤسسات الوطنية اليوم، إلا أن المنطق المالي يؤكد أنه يستحيل التفكير في استجراره وفق اشتراطاته «الطاردة» التي وضعتها المصارف «بعد جهد جهيد»، ومنها على وجه الخصوص سعر فائدته التي يعد مستواها عند 13% سابقة تاريخية تعاكس ما عرفته البشرية من سياسات مصرفية توسعية تعتمدها الدول لدعم الاستثمارات وتحقيق النمو الاقتصادي وزيادة التشغيل. وهي الأهداف التي تمثل الحاجات الملحة لاقتصادنا الوطني في ظل الحرب التي يعيشها.
ثمة مظهر طارد آخر يتسبب به سعر الفائدة «الفريد» هذا، وهو ذو خصوصية سورية محضة، فبالنظر إلى سياسة التسعير الإداري التي حددت هوامش ربح المنتجين المحليين قرب 15%، يمكن للمرء أن يقع على طرافة ما قد يتبقى لـ«المقترض/ المنتج» من عائد متوقع على الاستثمار بعد إضافة تكاليف التشغيل إلى نسبة الفائدة تلك!.. نظرياً، قد يضطر إلى دفع 13% أخرى من جيبه لسد أرباح المصرف «القارض».
وفق ذلك، يمكن اتهام سعر الفائدة الذي أقرته المصارف الحكومية بوأد القروض التشغيلية في مهدها تبعاً لتناقضه الصارخ مع مبدأ التوسع في الإقراض، إلا أنه هو الآخر بني بطريقة محاسبية مدرسية على سعر فائدة مدينة مرتفعة تم اعتمادها سابقاً في سياق سياسة انكماشية سعى المصرف المركزي من خلالها إلى ضبط كمية الليرات المتداولة طمعاً بخفض الطلب وكبح التضخم الذي عصف ويعصف بالأسواق المحلية. والحال كذلك، تبرز حالة التناقض الحاد التي يعيشها الاقتصاد الوطني من خلال اعتماد سياستين اقتصاديين متضاربتين تماماً -انكماشية وتوسعية- في آن معاً، وهو ما يؤسس ليس فقط لفشل الإقراض كأداة تنموية، فإن لم يتبدل شيء ما في القطاع المصرفي، فثمة تهديد حقيقي أعمق يتربص بالسياسة الاقتصادية العامة التي عبرت عنها القوانين والقرارات التي أطلقت مؤخراً لدعم النهوض بالإنتاج الوطني.
في هذه البيئة الاقتصادية المتناقضة، يخيل للمرء بأنه لو قيض للاقتصاد الوطني أن يتجسد اليوم بهيئة رجل، لرأيناه «ينتف شعر رأسه» بكلتا يديه غيظاً واحتجاجاً.