قضايا وآراء

نحو مرحلة انتقالية للانقلاب على الواقع.. «البعث» يخوض نقاشات فكرية

| د. مازن جبور

يخوض حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة الأمين العام للحزب الرئيس بشار الأسد، نقاشات منظمة ومحددة بهدف الانقلاب على الواقع الذي أنتجته الحرب أملاً بأن تدخل البلاد بقيادة البعث مرحلة انتقالية، تنهي بها سنوات عجافاً، وتردم فجوات عميقة، معتمدة التغيير التراكمي التدريجي الإيجابي، انطلاقاً من حوارات النخب الفكرية، وعصف الأذهان لإنتاج أفكار جديدة فعالة لتحقيق التغيير المأمول.

بدأت ملامح التغيير تظهر مع التوسع في العملية الانتخابية داخل المؤسسة الحزبية كمنهجية عمل جديدة، إذ خاض الحزب الاستحقاقات الانتخابية الوطنية مثل انتخابات مجلس الشعب من خلال عملية الاستئناس الحزبي، ومن ثم عبر خوضه لانتخابات الإدارة المحلية، لينتقل التغيير إلى البيت الداخلي للبعث عبر الانتخابات المؤهلة لحضور الاجتماع الموسع لانتخاب اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، هذه الخطوات الإجرائية المنتظر منها الكثير والقابلة للتطوير بما يقتضي الواقع وبما يستشف منها، رافقها تعزيز الحزب لثورته على الواقع بعمل فكري نخبوي، ضمن جلسات عصف ذهني بقيادة الأمين العام للحزب.

انطلقت تلك الجلسات ضمن إطار المنهجية المعهودة للرئيس الأسد، فجاءت الجلسة الحوارية الأولى بين الأمين العام للحزب ومجموعة من المفكرين والأكاديميين والكتاب البعثيين في حوار عن دور الحزب في مستقبل سورية، ثم انتقلت إلى التخصص في البحث في مفردات البعث المركزية، إذ مثلت الاشتراكية وما يتصل بها ويتفرع عنها من مفاهيم ومبادئ وآليات ونظريات اقتصادية، عنوان الجلسة الحوارية الثانية بين الرئيس الأسد وعدد من أساتذة الاقتصاد في الجامعات السورية.

تجدر الإشارة إلى أن الجلستين الحواريتين السابقتين، نسق وحضر لهما من مؤسسة دار البعث، عبر مجموعة من الجلسات النقاشية، والاستبيانات حول الأسئلة الملحة التي يقتضي الوضع الراهن طرحها، أي إن تلك الجلسات لم تأت بمحض المصادفة، وإنما بناء على برنامج مؤطر، يبدو أنه جزء من سلسلة خطوات قادمة، بحيث ينتقل الحوار الذي انطلق مع الأمين العام للحزب، ليتسع ويعمم على البنى الحزبية المختلفة، بدءاً من القيادة المركزية للحزب، وصولاً إلى أفرع الحزب في المحافظات، ومن ثم الشعب الحزبية فالفرق، بحيث يصبح حوار البعث حول مستقبل سورية وما يتصل به من مفاهيم أساسية ترتبط بالهوية الوطنية وبالهوية الاقتصادية والنظرية الاجتماعية والسياسية، جزءاً أساسياً من تفكير كل وطني سوري خلال المرحلة القادمة، المرحلة الانتقالية، التي يقودها حزب البعث ويعتبر أن مسؤوليته أن يكون جاذباً لكل الوطنيين السوريين للانخراط فيها، للانتقال بسورية نحو مستقبل مشرق.

بناء على ما سبق، يمكن التقدير بأن إقامة الحوار المؤطر والممنهج على المستوى الوطني، سيشكل المهمة الأساسية في أجندة عمل القيادة المركزية القادمة لحزب البعث، لتقوم بدورها بنقله إلى البنى الحزبية الأخرى وتعميمه، ليشكل لاحقاً حالة حوارية موسعة على المستوى الوطني، انطلاقاً من أن المعنيين بها وبنتائجها هم السوريون كلهم، وليس البعثيين فقط، والمعيار الأساسي للانخراط في هذه العملية هو معيار الوطنية، أي يجب أن يمثل الحوار الذي يقوده البعث حالة جامعة للوطنيين السوريين جميعهم، فنتائج الحوار يجب أن تحظى بالتوافق، وليس المقصود بالتوافق هنا هو الاتفاق الأيديولوجي أو الانتماء التنظيمي لحزب البعث، وإنما أن يتفق الجميع على الحالة الوطنية، وعلى المرحلة الانتقالية وهدفها الأساسي في إزالة آثار الحرب على سورية، وإعادة البناء بما يضمن وحدة وسيادة واستقلال سورية، وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي للمجتمع السوري.

إن التصور السابق لمرحلة انتقالية سورية، أساسها التغيير نحو الأفضل على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وتتطلب انخراط جميع القوى السياسية السورية والنخب الفكرية في عملية تغيير داخلية، كل ضمن بناه المؤسسية، بما ينعكس على التغيير الكلي المرجو، وبما يتقاطع مع هدفه الأساسي، وهو الانتقال إلى واقع سوري أفضل، بمعنى أن يتحمل الجميع المسؤولية التاريخية التي شرع بها البعث بقيادة الرئيس الأسد في المرحلة الحالية، ومن ثم فإن انخراط الجميع بالتغيير هو مطلب وطني يعبر عن وعي وطني عالي المستوى في لحظات تاريخية مفصلية.

وفي هذا السياق، من المهم جداً التنبيه إلى دقة الرئيس الأسد ووضوحه في طروحاته المتعلقة بالبعث، إذ أكد على اشتراكية البعث التي لن تتغير، مبيناً أن التغيير المرجو هو في السياسات والإجراءات والآليات التي نحقق من خلالها هدف الاشتراكية الجوهري، بمعنى أن نكون مرنين مع متطلبات الواقع واستخدام الآليات الأنجع، وهذه حالة طبيعية ونتيجة منطقية لتطور المعطيات العامة المحيطة بالمجتمع وبالوطن، وبالتالي بالحزب، ومن ثم فليس المقصود عند طرح مفهوم الاشتراكية على طاولة النقاش للتشريح والبحث، هو تغيير المبدأ، بل إيجاد الحل الأمثل للتطبيق، ولتفعيل النظام الاشتراكي بالشكل الأمثل بما يتناسب مع معطيات العصر والوضع السوري الراهن، وانطلاقاً من هذا المبدأ يمكن استشفاف آليات عمل يبحث عنها البعث.

إذاً تنطلق الرؤية الحالية لثورة البعث الفكرية للانقلاب الفعال على الواقع، من وجود خلل في الآليات يجب تصحيحه، بمعنى وجود خلل في الممارسة العملية، فمثلاً في كثير من المطارح تم قلب الأدوار بين دور حزب البعث بصفته حزباً حاكماً وبين دور الحكومة التي تمثله، هذا النوع من الخلل هو ما يجب إصلاحه، وكمثال آخر فإن الاشتراكية كنظام اقتصادي يحقق الدعم الاجتماعي ويعتمد على تدخل الدولة الكلي في الاقتصاد، فالتغيير هنا لا يعني التخلي عن هذه الأدوار، وإنما تغيير الآليات بما يحقق فعالية كبيرة في المهمة الأساسية للاشتراكية وهي تحقيق أعلى درجات الدعم الاقتصادي لشريحة الفقراء، وتحقيق الرفاه على المستوى الوطني عموماً.

وبالنظر إلى هذه المهمة الوطنية الكبيرة التي شرع بها البعث بقيادة الرئيس الأسد، وبدأها بإثارة الحوار بين نخبه، فإنه يقع على عاتق بناه مسؤوليات جسام، فهي من سيقع على عاتقها التنفيذ وفق الآليات الجديدة، وأهمها تصحيح العلاقة بين الحزب ومؤسسات الدولة، وهنا تتبادر إلى الأذهان مجموعة تساؤلات جوهرية، حول آليات العمل الحزبي السياسي داخل مؤسسات حكومية أساسية، كالمؤسسة العسكرية والمؤسسة التعليمية، وغيرها من المؤسسات الحكومية، ومن ثم فإن هكذا استحقاقات لا بد سيضعها البعث على طاولة التشريح والنقاش، ستجعلنا ندرك حجم وحساسية المهمة والمسؤولية الوطنية التي تحملها، ومدى تأثيرها مستقبلاً في إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة للسوريين، وإعادة تحقيق الأمن والاستقرار ووحدة التراب السوري.

أخيراً، ما يجب التأكيد عليه أن التغيير المرجو ليس قاب قوسين أو أدنى، وإنما هو نتاج مرحلة زمنية قد تصل إلى سنوات، فنحن نتكلم عن تغيير ليس على مستوى حزب كبير كحزب البعث، وإنما عن تغيير على المستوى الوطني، ومن ثم فإن الانتقال الذي أساسه التراكم التدريجي الإيجابي، هو الأسلوب الأكثر أمناً واستقراراً للحالة السورية.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن