ثقافة وفن

إذا أردتَ أن تقتل الجمال!

| إسماعيل مروة

خطر لي بعد حياة حافلة بالعمل والشأن العام، ومعرفتي اللصيقة بكل شرائح المجتمع الفكرية والسياسية والأدبية، ومن واقع التجربة والرؤية أن أتحدث عن شيء مما عرفت، وقد تفيد سواي من الناس، وقد كنت من قبل طامحاً وطامعاً، وبعد أن أدركت عجزي الفردي، وقد كنت من قبل أزعم مقدرتي، لأقول: إذا أردت أن تقتل ذاتك، وأن تقتل الجمال في حياتك فعليك أن تعمل في السياسة! نعم، أن تعمل في السياسة، فقد استعرضت ما لا يقل عن أربعة عقود من الحياة، وسجلت أسماء كثيرين عرفتهم وعاشرتهم منبهراً أحياناً، ومحباً أحياناً، وناقداً في كثير من الأحيان، وأعفي نفسي من ذكر الأسماء فهي كثيرة ومعروفة، جالستهم وجالستهن في كل نادٍ ومكان، وحاورتهم، وأقول إنني كنت مندهشاً، وربما دفع بعضهم في نفسي الأمّارة الطماعة شيئاً من الطموح والطمع الذي أشرت إليه! وخاصة أن هؤلاء التقيت بهم في مراحل الشباب وفورته، وبعضهم كان يعزف على وتر الغرور عندي، وبعضهم كان يمتدحني من زاوية، حتى ظننت أنني يمكن أن أكون لاعباً مهماً، فطمعت وطمحت، وتخيلت، لكنني لم أرسم يوماً، ولم أعمل للوصول في يوم، وربما كان من حسن طالعي أنني كنت مؤمناً بما وصلت إليه وقدرتي، وكنت أظني قادراً على الوصول بما أملكه من مقومات ورؤى.. لكن الحياة الفظيعة، والناموس الذي يتحكم في الكون كان لهما رأي آخر، فوجدتني غاية وهدفاً لكثيرين ممن محضتهم الحب والود، ووجدتني أخسر وبجدارة فبدأت الصحوة، وبدأت أغيّر من قناعاتي بقرار ذاتي..

وحين أضع الخارطة أمامي أقول بكل تأكيد: إن أردت أن تقتل الشيء الجميل فيك، وإن أردت أن تخسر الحياة الجميلة فاعمل في السياسة، كان من الممكن ألا أقول مثل هذا الكلام لو تهيأ لي أي مكان أطمح إليه، ولكنني كما قال في شهادته الأستاذ وضاح عبد ربه عني: «شخص لا علاقة لي بالسياسة، وإنما علاقتي بالأدب والجمال، ظن بعضهم أنني سأحذف هذه العبارة من شهادة صديق عمر وأستاذ، ولكنه لم تسعدني شهادة من الشهادات بقدر هذه الجملة المعبرة..

المهم جلست بالأمس، استعرضت قائمة من الأسماء تتجاوز العشرات، بعضها بمكانة الأستاذ لي، وبعضها بمكانة الزميل، وبعضها أقلّ من ذلك في العمر والتجربة والتحصيل، وصرت أحرّك قلم الرصاص، وأنا أقلب أسماءهم، وهم لا علاقة لهم بالسياسة، ولا يملكون أي رؤية سياسية، وأزعم أن كثيرين منهم لا يقرأ صحيفة أو كتاباً من باب الغرور والاعتداد بما يملك من رؤى ومكانة، فوجدتهم ينزلون تحت أصناف عديدة، فمنهم الأكاديمي المثقف والأستاذ الجامعي المدلل والمرتاح، الذي يحيا حياة جميلة ومترفة، ومنهم المتدرج الذي وصل إلى أماكن مهمة بسبب الظروف، ويحيا حياة الأباطرة، وبعضهم يبدأ شق طريقه في الحياة، وبعضهم من العمال المهنيين، وفي أدنى سلّم المهنية، وكان يقبل أن يعمل في أشياء لا يقبلها صاحب الحسّ السليم بذاته..!

كل هذه الأصناف وغيرها، أرادت أن تعمل في السياسة، وأن تدخل المعترك لتكسب أكثر لا لشيء آخر، فإما انضمت إلى أجنحة في الداخل، ووصلت وتربعت، وصارت تأمر وتنهى..! وإما رأى بعضهم أن الأجدى أن يركب موجة في الخارج لأنها كما يرى أكثر ربحية، وهؤلاء صنفان، إما مسؤول انتهت صلاحيته، ولا يريد أن يغادر المشهد، فأراد أن يتحول من ظالم سامنا سوء العمل، إلى مدافع عنا! إلى ممثل للمظلومية، وكأنه بجرة قلم، وظهورات إعلامية يمكن أن يمحو كل شيء في نفسه، وإما من الباحثين عن مكان لم يكن لهم، وكان أسيادهم يكتفون بإكرامهم مادياً دون أن يكون لهم أي دور في السياسة! أتحدث عمن أعرفه لأكون مباشراً ومنطقياً، فلا يعنيني الخارج، ومع توالي الأيام والشهور والسنوات، وبغض النظر عن الأحكام، ومن يملك الحق ومن لا يملكه، استطاع القلم وهو يتحرك على الورق أن يشطب عشرات الأسماء، فهذا مات في الخارج غريباً طريداً، وذاك ألغاه سادته، وثالث صادروا أمواله، ورابع صار سجيناً، وخامس حددوا حركته.. وهذا رحل في الداخل بصمت، وآخر لم يترك في محيطه المهني أي ذكرى طيبة، لأنه كان غولاً!

وفي كل حال من هؤلاء وهؤلاء رحلوا، ولم يتمكنوا من الاستمتاع بالحياة والجمال، بل لم يتمكنوا من الاستمتاع بالمال الذي جمعوه، وربما كان في مصارف وقعت عليها مشكلات، وبكل حال، جمعوا وضاع ما جمعوا! مارسوا الكره واحترقوا فيه، لم يستطع واحد منهم أن يشرب قهوته بحب، ولا أن يتجول بحرية، ولا أن يعشق ذاته ومن حوله..!

قتلوا أنفسهم لأنهم عملوا في السياسة! وهذا لا يعني الابتعاد، فثمة فرق بين العمل بالسياسة والوطنية والحياة، فكل واحد منا يمكن أن يكون عاملاً وبناء من مهنته واختصاصه وموقعه، لكن دون أن يترك منبره الأكاديمي أو محراثه أو آلاته ليكون في غير مكانه الذي خلق له..

السعادة جمال.. وما أروع أن يحيا واحدنا بالجمال بدل أن يقتل ذاته بتخمة الأشياء التي ليست له.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن