سرقَ حادث العدوان الإسرائيلي على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق الأضواء من كل الأحداث المهمة قبلَ ساعاتٍ من عطلة عيد الفطر الذي لا ندري إن كان سيكون سعيداً وسطَ ما يعيشه العالم بالمجمل من فوضى والشرق الأوسط بصورةٍ خاصة من اقترابٍ لنقطةِ الانفجار.
الاعتداء غير المسبوق إن كان من خلال مسار ستاتيكو الصراع مع سقوط كافة الخطوط الحمر، أو من خلال ما شكله كخرقٍ للأعراف والاتفاقيات الدولية غير القابلة للتأويل أو الاجتهاد التي تحظر إقحام مقار البعثات الدبلوماسية بالحروب، فتحَ الباب على مصراعيهِ للكثيرِ من التساؤلات منها مثلاً: ماذا عن الخروقات الأمنية المتكررة التي تستهدف شخصيات إيرانية بعينها؟ لكن من يطرح هذا السؤال ولو بحسن نية، لأن بعض الاستهدافات فعلياً تمت في الداخل الإيراني، يتجاهل فكرة أن المستهدف قنصلية من الطبيعي أن يكون فيها شخصيات عسكرية أو أمنية، كأن يقوم أحدهم بقصف بناء جامعي ويفاجأ من استشهاد طلاب! مع ذلك فإن هذا السؤال وغيره يبقى هامشياً قياساً بالسؤال الجوهري: ألم يحن بعد وقت الرد بحيث يكون الرد إيرانياً واضحاً وليسَ بالوكالة تحت شعار وحدة الجبهات؟!
قناة «إن بي سي» الأميركية نقلت عن مسؤول أميركي قلق الولايات المتحدة من التصريحات الإيرانية التي تؤكد فكرة أن هناك رداً بما فيها كلام المرشد علي خامنئي، لكنه عادَ وأكد أن الولايات المتحدة ستبحث عن كل ما يدعم القوة الدفاعية لإسرائيل، ما يعني ببساطة أن الولايات المتحدة وإن كانت قد هرولت لنفي أي علمٍ مسبق لها بقرار استهداف القنصلية وتبرأت منه، إلا أنها كما جرت العادة مع كل جرائم إسرائيل لم تتبرأ من تبعات هذا الاستهداف!
أما بعض الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي فكانت أكثر وعياً من الولايات المتحدة لخطورة ما يجري فتحدثت مصادرها الأمنية عن خط وساطة مفتوح مع طهران لمحاولة «تقليم أظفار الرد» فهل تنجح هذه المساعي؟
قد لا يختلف اثنان في أن الرد المنتظر إن حدث بقرار إيراني بحت، سيغير الكثير من المسارات في هذا الشرق، بل وسيجبر الجميع بالنهاية أقله على فكرة العودة إلى توازنات ما قبل فترة الربيع العربي المشؤوم، لكن في الوقت نفسه دعونا نتقبل فكرة أن عدم الرد الواضح والصريح الذي يستهدف الكيان بشكلٍ مباشر وواضح بعيداً عما تروج له بعض الأوساط الأوروبية «رد متفق عليه يُنزل الجميع عن الشجرة» هو أيضاً سيبدل وجه هذا الشرق، لأنه بواقعيةٍ تامة سيكون تمهيداً لاستهدافات مستقبلية في الداخل الإيراني على طريقة كرة الثلج التي تكبر، بل يمكننا القول إن استهداف شخصيات بعينها منذ الاستهداف الذي طال قاسم سليماني حتى اليوم لم يكن أكثر من مجرد «بروفة» حقيقية لاستهداف «إيران النووية» لأننا تحدثنا في أكثر من مناسبةٍ هنا بأن فائض القوة الذي يشعر به قادة الكيان الصهيوني مقلق ولن يوفر أي هدف، لذلك نرى ارتفاعاً في النبرة المطالبة بالرد لأن ما رمت إليه دولة الاحتلال من هذا الاستهداف هو إحراج الجانب الإيراني لأبعد حد ليصبح معه عدم الرد فقدان للمصداقية، والرد قد يعني حرباً شاملة.
بين هذا الاحتمال وذاك لا تبدو الخيارات متعددة وبالوقت ذاته لا تبدو كل الأفكار قادرة على تسويق صوابية هذا الاحتمال أو ذاك، لذلك فإن الانتظار هنا هو سيد الموقف تحديداً أن تتابع الأحداث ما زال يوحي بالكثير من المتغيرات التي ستُقبل عليها المنطقة لذلك قلنا إن الحدث الإيراني غطى على أحداث لا تبدو بأهمية أقل، فكيف ذلك؟
ربما أن من سوءِ حظ المجرم ميسر الجبوري المكنى بـ«أبي ماريا القحطاني» أن انتقاله إلى جهنم وبئس المصير عبر اغتياله واثنين من مساعديه بحزامٍ ناسف في سرمدا بالريف الشمالي لحلب تزامنَ مع الاعتداء على القنصلية الإيرانية، فلم يأخذ هذا الخبر حقه!
عند التدقيق بالملف الشخصي للمجرم القحطاني سنكتشف أنهُ ليسَ مجرد قيادي في تنظيم إرهابي، فهو أحد مؤسسي جبهة النصرة الإرهابية، وله صولات وجولات في العراق حيث كان قد استقى مباشرةً من فكر الإرهابي أبي مصعب الزرقاوي عندما كان يقاتل تحت رايته في تنظيم التوحيد والجهاد، بل تُنسب إليه الكثير من التكتيكات العسكرية التي أدت لقيام التنظيم في بداياتهِ بعمليات إرهابية ناجحة أهمها التفجير أمام فرع الأمن العسكري في حلب في شباط من العام 2011، الذي حصد عشرات الشهداء من المدنيين، في السياق ذاته قاد القحطاني الكثير من العمليات الحربية ضد تنظيم داعش بعدَ إعلان فض الشراكة بين التنظيمين الإرهابيين في العام 2014 بعدَ خلاف البيعة الشهير بين أيمن الظواهري والفاطس أبي بكر البغدادي.
من جهةٍ ثانية، يُحسب للقحطاني بأنه ذات نفسه كان صاحب مشروع فك ارتباط «هيئة تحرير الشام» بـ«جبهة النصرة» التي هي فرع من تنظيم القاعدة، كان المراد لهذا المشروع أن يحول الهيئة إلى مشروع واجهة سياسية لتنظيمات راديكالية مقبولة عند الغرب يمكن الاعتماد عليها كندّ للدولة السورية من دون الخوض بفكرة الانتماء لتنظيماتٍ إرهابية، ربما نجح في ذلك إلى حدٍّ بعيد فهو كان على تواصل مباشر مع الكثير من الاستخبارات الغربية وهو ما كان أحد أسباب عزله بتهمة «تجاوز صلاحياته» حيث تتحدث الكثير من الأوساط الأمنية عن قيامه وأحد مساعديه بتزويد أجهزة أمنية غربية بمعلومات عن المقاتلين السابقين للتنظيمات الإرهابية الذين دخلوا دولاً أوروبية بصفةِ لاجئين، ما مكن هذه الأجهزة من اكتشاف بعض من هذه الخلايا النائمة من دون أن ننسى تواصله المباشر مع الاستخبارات التركية وما لديه من استثمارات مالية هناك.
هذا الملف الشخصي الحافِل بالإنجازات الإرهابية والمُشبع بروح التطرف العابر للحدود كان من الممكن أن يقود القحطاني ليكون الزعيم الحقيقي لـ«هيئة تحرير الشام» بديلاً للإرهابي أبي محمد الجولاني، لكن يبدو بأن جنسيته العراقية شكلت عائقاً أمام ذلك لكوننا نتحدث في الظاهر عن «معارضة سورية»، لكن القضية لم تقف فقط عند القحطاني ذات نفسهِ بل إن أحد أهم الملفات الشائكة التي تعاني منها التنظيمات الإرهابية في الشمال السوري اليوم هو ما يعرف باسم المهاجرين، أي من لبوا زوراً وبهتاناً دعوات الجهاد في سورية حتى باتوا عبئاً على الجماعات الإرهابية التي يقودها سوريون، فلا إمكانية لدمجهم بحل سياسي ما، ولا إمكانية لعودتهم إلى بلدانهم لأنهم مطلوبون كإرهابيي الحزب الإسلامي التركستاني الذي ينحدر أغلبية منتسبيه من القومية الإيغورية، لذلك تبدو عمليات التصفية تلك هي جزء من عملية التخلص بالتدريج من كل هؤلاء بإيعاز أميركي تركي، بمعنى آخر فإن كل الإمعات التي وصلت إلى سورية بقصد الجهاد ستلقى المصير ذاته إن عاجلاً أم آجلاً ما لم تقم هي ذاتها بالمبادرة لتجنب هذا المصير، أي قتال الجولاني قبل أن يقاتلهم، بمعزل عن العلاقة القوية مثلاً التي تربط الحزب الإسلامي بالجولاني، لأن ما كان يربط الجولاني بالجبوري أقوى بكثير ومع ذلك قام بتجريدهِ قبل ستة أشهر من كل صلاحياته حتى قام بتصفيته، إلا إن كان البعض يصدق بأن داعش هي من نفذت عملية الاستهداف! وهذا الاتهام رفضته الكثير من الجماعات الإرهابية الموجودة في إدلب حالياً واعتبرت أن الجولاني هو صاحب المصلحة بالتصفية والاتهام، وتبدو هذه المقاربة منطقية تحديداً مع بعض الشهادات الحية لأهالي سرمدا الذين فرضت عليهم الظروف الوجود في تلك المنطقة لكنهم حكماً يقفون مع وطنهم ضد كل هذه الأفكار، بالنسبةِ لهؤلاء لا يمكن لثلاثة أشخاص مجهولين أن يدخلوا المضافة وهم يحملون سيفاً ملغماً، سيناريو لا يمكن حدوثه في ذهن كل من يعرف الآلية التي يتم فيها استقبال هؤلاء لزوارهم، هؤلاء تتقاطع أفكارهم مع فرضية أن الجولاني أراد من هذا الاتهام تبرئة نفسه واستعاد خطر داعش من جديد ليقدم نفسه كمحارب للأفكار المتطرفة وقد يكون ضحية مستقبلية لها، وبالسياق ذاته يتمكن من امتصاص الغضب الشعبي المتزايد والتظاهرات التي تخرج وتطالب باعتقاله، عبر التخويف بأن البديل حال سقوطه سيكون داعش، مع العلم أن الكثير من الذين خرجوا بهذه التظاهرات من الواضح بأنهم خرجوا بإيعاز تركي بات يرى ببقايا هذه الجماعات الإرهابية عائقاً أمام فرض رؤيته السياسية للحل في إدلب، فماذا ينتظرنا؟
إذا كنا في الحدث الإيراني تحدثنا عن حتمية انتظار الوقت فإن الحال في إدلب لا يبدو بأي حالٍ من الأحوال بالسياق ذاته، من الواضح أن سياسة الاغتيالات والتصفية لن تقف عند حدٍّ معين، فتنظيمات أشبه بالضباع التي بدأت تتهاوش، تدرك تماماً بأنها ستواجه المصير الأسوأ، وإذا كانت تلك الضباع تمكنت خلال السنوات الماضية من التنسيق مع الكيان الصهيوني في كل الاستهدافات التي نفذتها، فإنها ستجد نفسها قريباً خارج سياق حمايته، ربما لأنه سيكون أحوج لتلك الحماية منهم.
كاتب سوري مقيم في فرنسا