الأولى

«وقتلُ شعب كامل مسألة فيها نظر»

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

تطورات حرب الإبادة على شعب فلسطين أخذت بالإجابة عن بعض الأسئلة المؤرقة التي يسألها معظم الناس الطبيعيين منذ بداية هذا العدوان، ولعلّ أحد أهم هذه الأسئلة هو: كيف يمكن للعالم الذي يطلق على نفسه صفة «متحضر» و«ديمقراطي» و«راعي حقوق الإنسان» أن يصمت عن كل جرائم الإبادة الشنيعة التي يرتكبها كيان الأبارتيد الصهيوني بحق النساء والأطفال والأطباء والمرضى والإعلاميين والمنقذين والذين وهبوا أنفسهم لخدمة الإنسانية ورفضوا النجاة بأنفسهم فقط؟ الجواب عن هذا السؤال غدا واضحاً من خلال ردود الفعل الغربية على قتل إسرائيل سبعة من عمال «المطبخ المركزي العالمي» الذي هو فعل مشين ومدان بكل تأكيد وهو جريمة يجب أن تُحاسَب قيادات إسرائيل العسكرية والمدنية عليها، وكما قال مؤسس المطبخ جوزي أندري إن المحاسبة يجب أن تبدأ من المسؤولين في كيان الوحشية العنصرية إسرائيل، لكن المفارقة الحقيقية التي أهدف إلى تسليط الضوء عليها هنا والتوقف عندها هي اختلاف ردود الأفعال الغربية المتباينة حسب لون البشرة والدين والعرق على هذا الحدث عن كل ما سبقه من جرائم قتل وإبادة للمدنيين العزّل في غزة وعلى مدى ستة أشهر ونيف.

لقد قتل المجرمون الصهاينة مئة وأربعين صحفياً ونيّفاً في غزة، من ضمن 33 ألف مدني أكثر من 72 بالمئة منهم أطفال ورضع وأمهات، كلهم يرتدون السترة التي يُكتب عليها «إعلام» بحروف كبيرة وواضحة لا يمكن تجاهلها إلا بفعل متعمّد، كما أن الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها قوات الصهاينة في مجمّع الشفاء الطبي بحقّ عمال وأطباء ومنقذين إنسانيين الذين عبروا عن أقصى درجة من النبل الإنساني، الذي يفتقده حكام الغرب المتصهين، بالوقوف مع مرضاهم وعدم مغادرتهم مشافيهم في غزة إلى أن قتلتهم إسرائيل جميعاً عمداً وإجراماً وحرقت أجسادهم الطاهرة.

وهذا هو المشفى رقم 32 الذي تدمره إسرائيل بالكامل أمام أعين الغرب الصامت الداعم لجرائم الإبادة المروعة التي يرتكبها نظام «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» كما يحلو لهم أن يردّدوا، وهذه الجرائم تقف شاهداً تاريخياً على همجية هذا الكيان وعنصريته، إلا أنّ كلّ هذا لم يستدع إدانة واحدة من الدول الغربية التي تدّعي «الحضارة» ولم يدفع إسرائيل حتى إلى الاعتذار عمّا قامت به و«الوعد» أنه لن يحدث مرة أخرى.

والسؤال هو: لماذا؟ والجواب واضح لأن حياة الفلسطيني والعربي والمسلم مستباحة لدى كل هذا الغرب المتوحش، والمسؤول عن إبادة سكان أميركا وكندا وأستراليا الأصليين، حيث تقبع في أعماق ذاته عنصرية متجذرة ضد العرب والمسلمين كافة حتى الموالين للغرب، وهم بالتأكيد يعتبرون أن الكيان الصهيوني يقوم بالمهمة التي يرغبون في أعماقهم أن يقوموا بها أنفسهم ولذلك فهم يمدّونه ومنذ اليوم الأول بالدعم السياسي والمعنوي وبفائض من المال والسلاح ليستمرّ في حرب الإبادة هذه بالنيابة عنهم كلهم جميعاً ونتذكر تصريحات الساسة الغربيين بأنهم هم والمجرمون الصهاينة يشتركون «بالقيم» نفسها، والتي تبين أنها قيم الإبادة الوحشية للمدنيين العزل، وإلا لماذا استغرق الرئيس الأميركي جو بايدن حتى الثالث من نيسان، مع أن حرب الإبادة على الفلسطينيين بدأت في تشرين الأول، كي يقول لرئيس حكومة كيان العدو بنيامين نتنياهو: «إن الهجوم على العاملين في المجال الإنساني في غزة والوضع الإنساني بشكل عام غير مقبول»! وكأن قصف الصهاينة للمنازل الآمنة وإبادة المدنيين مقبولة لديه، وهو الذي اعترف بأنه صهيوني عريق، أوَلم يكن كل العاملين في الإنقاذ في المشافي في غزة عمالاً وأطباء في المجال الإنساني؟ أم إن إنسانية العربي منقوصة بالنسبة لكم ولذلك فأنتم لا تحركون ساكناً لمقتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال والمدنيين العزّل والإعلاميين والأطباء وعمال الإغاثة العرب وتتحركون فقط إذا قُتل أحد من أبناء جلدتكم؟ مع أننا ندين قتل أي عامل في المجال الإنساني وفي أي مكان ولكننا نجد أن لا أحد يأبه لقتلنا والفتك بأهلنا ومدنيينا طالما أنهم عرب على أرض عربية ويطمحون أن يعيشوا بكرامة وطنية كاملة ومن دون إملاء أو استعباد من أحد.

هل يُعقل أن ينتظر رئيس الولايات المتحدة وبقية حكام أوروبا وكندا وأستراليا سبعة أشهر ليشهد العالم أبشع المجازر التي ترتكب في العصر الحديث لكي يطالب بوقف نار فوري الذي لم يأبه به حكام كيان الإبادة الصهاينة، وفقط لأنه شهد قتل عمال غربيين ليسوا عرباً وهؤلاء فقط محرّم قتلهم؟ بل إن النائب في الكونغرس الأميركي تيم والبيرغ قد صرّح أنه بدلاً من تقديم المساعدات إلى غزة «يجب أن يكون مصيرها مثل هيروشيما وناغازاكي» أي أنه يدعو إلى قصف غزة بقنبلة نووية، وما يسري على غزة في عقول وقلوب هؤلاء القتلة يسري على الغرب جميعاً، كما أن الولايات المتحدة التي استخدمت منذ أسابيع الفيتو في مجلس الأمن لمنع صدور قرار بإرغام إسرائيل على وقف العدوان قد أكملت موقفها بإرسال كميات هائلة من القنابل والذخائر الحديثة كي يستخدمها الكيان الصهيوني الغاصب لقتل المزيد والمزيد من المدنيين الفلسطينيين العزّل وتدمير منازلهم ومدارسهم وجامعاتهم ومشافيهم ومنشآتهم الزراعية والصناعية الحديثة ومحوها تماماً عن الخريطة، وكأننا وفي هذه الوقفة مع الأحداث الأخيرة ووقعها على مواقف هذه الدول المشبعة بالقيم الاستعمارية الغربية وصمتها عن إدانة العدوان على الفلسطينيين نتذكر قول الشاعر العربي:

قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر

وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر

ولكن الجزء الآخر المفقود من المعادلة أيضاً هو إدراك ووعي العرب كلهم جميعاً لقيمتهم الحقيقية وتصنيفهم لدى هذه البلدان الغربية المعادية لكل ما هو عربي ومسلم والتي تتودّد نفاقاً إليهم فقط لنهب ثرواتهم أو لاستخدامهم في تنفيذ خططها الخبيثة ضد أشقائهم التي وإن بدت محابية للبعض ضد البعض الآخر في اللحظة الراهنة فإنها في النتيجة تستهدفهم جميعاً ولكن على مراحل ومع اختيار التوقيت والظروف المناسبة للاستهداف، وما الأصدقاء والحلفاء والمصطلحات التي يستخدمها الغربيون لإيهام بعض العرب أنهم أصدقاء وحلفاء إلا كلمات جوفاء منافقة لا مرتسم لها على أرض الواقع ولا يمكن أن تصمد أمام أول مفترق يُنبئ باختلاف في المصالح والأهداف.

فقد كانت التجارة البينية بين الدول العربية في عام 2010 لا تزيد على 3 بالمئة على حين تجارة بعض الدول العربية مع الدول الغربية تفوق 50 بالمئة من تجارتها رغم القرب الجغرافي للدول العربية والجدوى الاقتصادية الأكيدة للتعاون مع الدول العربية في المجالات الاقتصادية، وحتى في المجال الثقافي أو التعليمي والمهني فالعربي المؤهل من أفضل الجامعات الغربية لا تتمّ معاملته في بلدان عربية كثيرة مثل الأوروبي والأميركي الذي تخرّج من الجامعة نفسها ويحمل الشهادة ذاتها، فقد روى لنا زميل تخرج معنا في أوائل الثمانينيات أنه ذهب وزميله البريطاني للتقدم بطلب للتدريس في إحدى الدول العربية فحصل زميله على الفيزا مباشرة وعلى ضعف راتبه، ولم يستطع البريطاني أن يصدّق ذلك لأنه توقع على الأقل أن يكون العربي مكرّماً في بلد عربي وهنا أيضاً نتذكر قول الشاعر العربي:

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميّت إيلام

إن جوهر المعادلة هو أن العرب جميعاً في أعين الغرب سَواء؛ فهم من يهدف إلى إبادتهم جميعاً واستيطان أرضهم ونهب ثرواتهم واستعبادهم الغني منهم والفقير، والقادم من المشرق أو من المغرب، والذي يعمل أو لا يعمل على استرضائهم، لكن العرب بعين أنفسهم ليسوا سَواء «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى» ويظنون أن المجاملات والإطراءات التي يسمعونها من «أصدقائهم» و«زملائهم» الغربيين، الطامعين فقط بثرواتهم وبموقعهم الجغرافي أو بتثقيف بلدانهم لمصلحة الكيان الصهيوني، صادقة وهي في الحقيقة نفاق لا قيمة لها ولا مرتسم لها على أرض الواقع ولا يمكن أن يترجمها هؤلاء إلى أي فعل حقيقي في حال استدعت ظروف «الشريك العربي» أي مدد أو إسناد.

وما قام به الغرب من تفتيت للعراق وليبيا والسودان وحرب على سورية واليمن وإبادة في فلسطين أكثر من برهان على حقيقة مواقفهم وتوجهاتهم، أفلا تعقلون؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن