منذ أن ظهرت الولايات المتحدة الأميركية في أعقاب الحرب العالمية الثانية كقوة كبرى، كانت تعتبر الشرق الأوسط أحد أهم مناطق العالم أهمية في سياستها لتحقيق واستمرار سياسة الهيمنة العالميّة، وإنشاء تحالفات سياسية واقتصادية تتراوح بين المد والجزر والتخبط في كثير من الحالات.
لفهم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بشكل عام وتجاه الحرب في غزة بشكل خاص، من المفيد قراءة كتاب السفير الأميركي السابق إلى لبنان ونائب وزير الخارجية السابق ديفيد هيل حول الدبلوماسية الأميركية.
يقدم هيل تحليلاً مفصلاً حول السبب وراء المد والجزر والتخبط في السياسة الأميركية من تدخل محموم إلى إهمال مدوٍ، والعوامل التي تحدد سيرها، والأخطاء الاستراتيجية، ومسؤولية الأطراف الأميركية في المنطقة، التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى مآسٍ وكوارث جيوسياسية.
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لا تضع في أولوياتها أي بلد عربي إلا في لحظات عرضية تحدث فقط حينما يهدد الوضع في هذا البلد السياسة الأميركية في المنطقة، أو عندما تريد واشنطن أن تستخدمه كامتحان مبكر لسياستها في المنطقة.
الرئيس السابق دونالد ترامب وصل للرئاسة الأميركية وأجندته فقط إعادة اعتبار قوة أميركا في المنطقة، وأدَّت سياسته المؤيدة للصهيونية إلى «اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة لإسرائيل والاعتراف بضم الجولان»، وكانت اتفاقات أبراهام حسب «هيل» كاعتراف بأن الطريق إلى السلام العربي- الإسرائيلي لا يمر برام الله، وإنما من خلال توجه أمني مشترك مع الكيان الصهيوني.
المراقبون يرون؛ عدم الثبات في السياسة الأميركية المتخبطة مرده لتغير الإدارات ولعوامل تتعلق بالسياسة الداخلية من انتخابات إلى دور الكونغرس ودوائر الضغط الصهيوني، وهذا التغير يرسل رسالة إلى الأطراف في الشرق الأوسط: إذا كنتم تعانون من السياسة الأميركية، يقول هيل، يمكنكم توقع تغيير بعد 4 أو 8 سنوات، ويرى أن هذا الواقع هو ثمن تداول السلطة.
عدم معارضة الولايات المتحدة، لقرار مجلس الأمن الأخير، والمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، اعتبره رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والأوساط اليمينية المتطرفة، لطمة قاسية.
الرئيس الأميركي جو بايدن قال غداة اشتعال الحرب: «ليس شرطاً أن يكون المرء يهودياً، لكي يضحي صهيونياً»، في إشارة إلى ميوله ودعمه اللامحدود للدولة العبرية، القرار الأممي والتوجه الأميركي الجديد، أزعجا المسؤولين الإسرائيليين.
وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف، إيتمار بن غفير، قال: «نعم الولايات المتحدة دولة صديقة، لكن إسرائيل ليست نجمة في العلم الأميركي».
الاتصال الهاتفي بين بايدن ونتنياهو بعد مقتل عمال الإغاثة الأمميين في غزة بقصف إسرائيلي، كان عاصفا واعتبر بمنزلة تحدٍ لنتنياهو، كما اعتبر ضغطاً على نتنياهو للسماح بإدخال المساعدات للمدنيين في غزة.
وحشية الجيش الإسرائيلي في غزة وصدمة القرار الأممي، ترسخ من حالة التحول في الرأي العالمي ضد إسرائيل.
الرئيس السابق ترامب، والمرشح القادم للرئاسة عن الجمهوريين، صاحب قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، اليوم يطالب بإنهاء الحرب مع حماس بأسرع وقت، ويحذر حكومة نتنياهو من خسارة العالم.
المراقبون يرون أن نتنياهو وحكومته، يخسرون كل يوم مساحات واسعة من الدعم الأميركي التقليدي لإسرائيل، في الأوساط الحكومية والأهلية، وفي مؤسسات الإعلام، وحتى بين بعض الجماعات اليهودية.
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق على أمل أن تكرّر ذلك في بقية دول أخرى بالمنطقة، إلا أن فشلها الذريع في هذَين البلدين، بل انسحابها المهين من كليهما جعلها تعيد حسابات سياساتها المتخبطة، لذا قرّرت واشنطن إعادة تموضعها حتى تتفرّغ لتحدي صعود الصين السريع لتطويقها واحتوائها كي تعيق أو تبطّئ من نموها الاقتصادي وتقدّمها العسكري.
في ظلّ هذه التحديات وقرار الولايات المتحدة تخفيف وجودها العسكري المباشر في الشرق الأوسط، أرادت إعادة تنظيم المنطقة لتوكِل لقوى إقليمية التصدّي للنفوذ الإيراني والحفاظ على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الأميركية.
النظام الإقليميّ الذي تريده أميركا في الشرق الأوسط، كان يعتمد على التحالف بين الكيان الإسرائيلي، الحليف لأميركا، والأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا.
منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي استطاعت أميركا أن تخترق النظام العربي الإقليمي من خلال ترتيب معاهدات «سلام» مع أنظمة عربية، تضمن بقاء هيمنة إسرائيل، ابتداءً من معاهدة السلام مع مصر عام 1979، وباتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، وصولاً إلى اتفاقات أبراهام مع الإمارات والبحرين والمغرب في 2019 و2020، ولكن فشلت السياسة الأميركية بإيجاد تفاهم بين الكيان الصهيوني والأنظمة العربية المتحالفة معها من دون إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية من خلال ما يسمّى بحلّ الدولتين، والغطرسة الإسرائيلية وهيمنة اليمين المتطرف على السياسة الإسرائيلية أطاحا بكلّ المحاولات الأميركية لإيجاد تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، وتماهت واشنطن مع السياسة الإسرائيلية التي تدعو إلى إدارة الأزمة بدلًا من حلّها.
أرادت الإدارة الأميركية الحالية تتويج اتفاقيات التطبيع من خلال اتفاق تطبيع بين السعودية والكيان الصهيونيّ حتى تضمن مصالحها من خلال محاصرة واحتواء القوى المعادية لها وللكيان الصهيوني، هذه الاستراتيجية كانت ستوكل للكيان الإسرائيلي والأنظمة العربية المطبّعة معه للحفاظ على الأمن الإقليمي لتتفرغ أميركا للتحدّي الصيني في شرق آسيا، وجاءت عملية السابع من تشرين الأول 2023 الفدائية لتنسف هذه الاستراتيجية المتخبطة بعد أن عصفت نتائجها بصورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
الدعم الأميركي اللامحدود للكيان الصهيوني، شكك بمصداقية أميركا أمام الجماهير العربية والإسلامية، من خلال سياسة متهورة لاستعادة الصورة المنهارة للكيان الإسرائيلي الذي كانت ستعتمد عليه في الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها.
الولايات المتحدة بسياستها المتخبطة في المنطقة تسعى لهزيمة وسحق المقاومة في غزة واستعادة التحالف الذي أرادت إنشاءَه في المنطقة، وذلك بدعمها الكامل للقصف الإسرائيليّ الوحشي والإبادة الجماعية والتدمير الذي تمارسه في غزة، وتخلّت أميركا عن الشعارات البراقة التي رفعتها والمبادئ التي تنادي بها، وغامرت بسمعتها وكشفت عن وجهها الحقيقي، كشريك في كل جرائم الحرب الإسرائيلية.
السياسة الأميركية المنحازة والمتخبطة تهدف لاستعادة قوة الردع العسكري للكيان الصهيوني للهيمنة على دول المنطقة، وهذه السياسة ستعيق قدرتها على التوجّه نحو شرق آسيا لمواجهة التحدي الصيني.
ولهذه السياسة المتخبطة تأثيرٌ مباشرٌ على النظام الأمني الإقليمي، ومستقبل الأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا بعد أن انكشفت بعض هذه الأنظمة أمام شعوبها.
وجاء القصف الإسرائيلي لمقر القنصلية الإيرانية بدمشق كمحاولة لجر أميركا إلى حرب إقليمية ضد إيران لتعيد أميركا التهديد باستخدام قوتها العسكرية لحماية الكيان الصهيوني، وتبقى المنطقة على صفيح ساخن بعد الرد الإيراني المحسوب بدقة ليلة أمس.
يقول آينشتاين: الحمق أن تكرر الخطأ ثم تنتظر نتيجة مغايرة، وهذا على ما يبدو ينطبق تماماً على سياسة الرئيس بايدن المتخبطة في منطقة الشرق الأوسط.
وزير وسفير سوري سابق