أيام عديدة والعالم يرتقب الرد الإيراني على الاعتداء الإسرائيلي على قنصلية طهران بدمشق، هذا الاعتداء الذي مثل خرقاً واضحاً للأعراف والمعاهدات الدولية، وبينما العالم يترقب كان الكيان يقف على رجل واحدة، ينتظر رداً سيترك أثراً عميقاً بالمعنى النفسي والعسكري والسياسي.
جاء الرد الإيراني ليل السبت – الأحد الفائت، بأكثر من 300 قذيفة، بما في ذلك نحو 170 طائرة من دون طيار والباقي صواريخ بالستية من طرازات مختلفة وصلت لحدود 150 صاروخاً، ليحمل الكثير من المعاني المتأتية من شكل الرد ومضمونه.
فمن حيث الشكل، جاء الرد بشكل مباشر من الأراضي الإيرانية، إضافة إلى استهداف متزامن من الأراضي العراقية واللبنانية واليمنية، مع مجموع تعداد كبير للقذائف بمختلف أشكالها، حتى إن وسائل الإعلام الغربية وصفته بأنه الاستخدام الأكبر من نوعه عالمياً للطائرات المسيّرة، تضاف إلى ذلك مسألة البعد الجغرافي بين الأراضي الفلسطينية المحتلة وبين إيران، إذ تجاوزت المسافة التي قطعتها المسيّرات والصواريخ الألف كيلومتر، وهذا العدد وتلك المسافة لهما تفسيراتها المهمة في العلوم العسكرية.
إذاً، للرد معنى سياسي كبير، فإيران أثبتت حنكة سياسية منقطعة النظير في الرد، إذ جاء بعد مراسلات مع حلفاء الكيان وداعميه وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، فحاولت طهران الاستثمار في الرد، من خلال ما تردد إعلامياً عن مفاوضات بينها وبين واشنطن، مفادها افتداء قطاع غزة المحاصر بالرد، أي إن تتوقف إيران عن الرد مقابل توقف العدوان على قطاع غزة، وهو ما لم تنجح واشنطن في إقناع قيادة العدو به، في تعنت من رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، نتيجة رغبته في إطالة أمد الحرب وتوسعها، لكونها الفرصة الوحيدة لاستمراره في السلطة.
إذاً، نفذت إيران وعدها بالرد، وتركت دلالات على أن النظام الدولي يتحول، فالقوى الإقليمية الفاعلة لن ترضخ مجدداً للقطب الأميركي، ولن تسمح بازدواجية المعايير، وستبادر بالقصاص من المعتدي، على الرغم من أن الدول الغربية الداعمة للكيان، نددت بالهجوم الإيراني، واعتبرته خرقاً للقوانين الدولية، علماً أن هذه الدول ذاتها لم تر في العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية بدمشق خرقاً للقوانين الدولية ولاسيما معاهدة فيينا الخاصة بالبعثات الدبلوماسية، كذلك تعاملت الأمم المتحدة بازدواجية في المعايير، إذ ندد بالأمس مفوض حقوق الإنسان فولكر تورك، بالرد الإيراني، بذريعة أنه كان يمكن أن يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، على حين لم يصدر أي موقف عند استهداف القنصلية الإيرانية، أو أي عدوان إسرائيلي آخر على الأراضي السورية، رغم سقوط العديد من الضحايا المدنيين.
أما في المعنى العسكري، فقد غير الرد من قواعد الاشتباك في الإقليم، إذ جاء هذه المرة مباشرة من الأراضي الإيرانية، وحمل شكله وحجمه مؤشرات على القوة العسكرية الإيرانية من جهة، وعلى الاستعداد الإيراني للذهاب بعيداً في حرب إقليمية كبرى، فطهران هددت كل من يساهم إلى جانب إسرائيل في أي هجوم على أراضيها، وهو ربما ما دفع الإدارة الأميركية إلى إبلاغ قيادة العدو بضرورة عدم الرد، وفي حال كان هناك رد فإن القوات الأميركية لن تشارك فيه، وبالمجمل، فإن الرد سينعكس على معادلات القوة والصراع في الشرق الأوسط، وهذا هدفه الأساسي، إذ لم يكن هدفه تحقيق تدمير كبير وخسائر كبيرة، وإنما إرسال مؤشرات عن معادلات القوة الجديدة في المنطقة، وعن الاستعداد للحرب، وتغيير قواعد الاشتباك.
على الصعيد النفسي، فإن أهم ما حققه الرد هو ارتياح شعوب المقاومة ورفع روحها المعنوية من جهة، ومن جهة أخرى فإن أجمل الأخبار جاءت من قطاع غزة المحاصر، فأهله ناموا تلك الليلة على صوت طائرات وصواريخ وانفجارات أثلجت صدورهم، وليس على أصوات قضت مضاجعهم، وبدل أن يهربوا منها، شجعتهم على تحدي العدو، فبدأ نساء وأطفال غزة أمس رحلة عودة مفعمة بروح التحدي والتمسك بالأرض، إلى منازلهم المدمرة.
يبقى خيار اتساع الحرب، أحد الخيارات المحتملة، لكنه ضعيف، فالذكاء السياسي الإيراني بدا واضحاً من الإعلان مع إطلاق آخر حزمة من الصواريخ على الأراضي المحتلة، عن انتهاء الرد، حتى قبل أن تصل الصواريخ إلى أهدافها، وتم ذلك عبر بعثة طهران الدائمة في الأمم المتحدة، وهو ما تلقفته واشنطن سريعاً، وبادرت بكبح جماح نتنياهو.
كاتب سوري