نهض السوريون في ذلك اليوم ومن اللحظة الأولى لوصول طلائع المحتل الفرنسي إلى سورية، فابتدأت الثورة في الساحل السوري قبل أن يكون لغورو أي وجود في سورية، من الشمال إلى الجنوب امتدت الثورة، ومن بيروت إلى دمشق خط واصل رسم تاريخ سورية ولبنان حين حط غورو وصارت إنذاراته تتوالى، فقد أعدّ العدّة لاحتلال سورية، وكل ما كان من إنذارات لتمهد السبيل للاحتلال بمسوغات ومن دون مسوغات، وفي دمشق تضاربت الآراء بين قبول ورفض، ويومها ولد أول ما يمكن أن يكون شرارة للاستقلال الذي سيأتي بعد ربع قرن من الكفاح، ولدت جذوة المقاومة وكان يوسف العظمة هو من بدأها.
الوزير والمقاوم للمحتل
وزير الحربية يوسف العظمة رفض مع عدد من أصحابه الإنذار وبنوده، وقرر مقارعة المستعمر ومواجهته حتى لا يدخل سورية ودمشق بلا مقاومة، وكانت ملحمة ميسلون التي لا خلاف على رمزيتها وأهميتها نقطة أولى في مسيرة الجلاء، ومع ما قيل فيها من إقدام يوسف وصحبه وبطولتهم أو مغامرتهم غير المحسوبة برأي الكثيرين فإن ما قاموا به كان عملاً بطولياً لسورية كلها، ولذلك نهض شاعر الشام خليل مردم بك، شاعر النشيد السوري فيما بعد ليقول في العظمة أصدق ما يمكن أن يعبر.
أيوسف والضحايا اليوم كثر
ليهنك كنت أول من بداها
عرفنا يوم يوسف مبتداها
فهل من مخبر عن منتهاها
والشاعر المهندس المصري علي محمود طه قال فيه أروع الشعر:
في موكب الغادين مجد أمية
بجوانح مشبوبة وجوارح
يا يوسف العظمات غرسك لم يضع
وجناه أخلد من نتاج قرائح
قم لحظة وانظر دمشق وقل لها
عاد الكمي مع النفير الصادح
ودعاك يا بنت العروبة فانهضي
واستقبلي الفجر الجديد وصافحي
لقد كانت ميسلون اللحظة الأولى في مقارعة المستعمر الفرنسي، ليس كما صورها الشعراء والأدباء وحدهم، بل كما كانت في وجدان الساسة كما سجل ساطع الحصري وشهد فارس الخوري، وكانوا مع يوسف العظمة، ويشاطرونه الرأي في مواجهة غورو، وكذلك بقيت ميسلون وما تزال في وجدان الإنسان السوري الذي ارتبطت هذه الذكرى عنده بالثورة والجلاء، وإن تأخر ربع قرن من الزمن، ولولا هذه التضحيات الأولى ما كان للثورة أن تشتعل في كل صقع من أصقاع سورية من الساحل إلى الجزيرة ومن حلب إلى حماة وحمص ودمشق والقنيطرة، ولكل بلد من هذه البلدان ثوارها الذين عملوا للاستقلال.
الثورة السورية ورجالها
بدأت الثورة والمواجهات مع الفرنسيين منذ اللحظات الأولى للاحتلال، ومن ثم بدأت تتبلور لتتحول إلى ثورة سورية أطلق عليها اسم «الثورة السورية» لأنها حملت اسم سورية كلها، وضمت ثوارها من كل المناطق والأعراق والأديان والقوميات، واتفق الثوار فيما بينهم على قيادة موحدة لهذه الثورة أوكلت لسلطان الثوار سلطان باشا الأطرش الذي بدأ ثورته في مناطق جبل العرب، وأقضّ مضجع الفرنسيين، وأجبر الفرنسيين لأنه آلمهم إلى تسيير المقاتلين لمواجهته، وهزمهم في أكثر من موقعة مثل موقعة المسيفرة وسواها، ومن يعد إلى أوراق الثورة السورية يعرف كم واجه سلطان باشا الأطرش، وكم عانى في المناطق التي كان ينشط فيها لمواجهة الفرنسيين، واستحق من الثوار أن يتفقوا على قيادته العامة للثورة السورية في مواجهة الفرنسيين.
وقد احتفى الشعر بالثوار وقادتهم، ومن أكبر هؤلاء كان المجاهد إبراهيم هنانو والشاعر بدوي الجبل الذي يقول فيه، يخاطبه ويهنئه بالجلاء:
أتعلم أن الشام فكت إسارها
فلا قيد بعد اليوم فيها ولا أسر
فقرت بما تلقاه عيناك وانطوت
على النشوة الكبرى الجوانح والصدر
وأنتم على دل الشباب وزهوه
وأهوائه ركن القضية والذخر
وكان أثر إبراهيم هنانو كبيراً، ومواجهاته مع الفرنسيين مشهودة، وها هو الشاعر عمر أبو ريشة يخاطبه بكل بطولته ووقاره، بل يطلق عليه لقب أبي الأحرار إجلالاً له ولمكانته، وهو المجاهد والثائر الذي حمل لقب الزعامة:
وطن عليه من الزمان وقار
النور ملء شعابه والنار
تغفو أساطير البطولة فوقه
ويهزها من مهدها التذكار
عفواً أبا الأحرار كم من زفرة
مخنوقة أخشى الغداة تثار
ومن بلاد المهجر ينطلق الشعراء والأدباء لتمجيد الثورة السورية وقادتها، ومن أجمل القصائد التي قيلت في الثورة والثوار قصائد رشيد سليم الخوري (القروي) والذي خصّ سلطان الثوار سلطان باشا الأطرش بقصيدة فريدة، وتكاد تكون من قلائد الشعر اليتيمة في سلطان والثورة قال فيها:
خففت لنجدة العاني سريعا
غضوباً لو رآك الليث ريعا
وحولك من بني معروف جمع
بهم وبدونهم تغني الجموعا
ويا لك أطرشاً لما دعينا
لثأر كان أسمعنا جميعا!
بدت لك فرصة لتعيش حراً
فحاذر أن تكون لها مضيعا
وبراعة القروي، وبساطة الثوار جعلتاه معاً يستفيد من اللغة والمسميات ليصنع مفارقة طريفة للغاية، فأخذ اسم (الأطرش) من سلطان باشا ليصنع صورة فريدة من الشعر والدلالة والعمق (فيا لك أطرشاً) (كان أسمعنا جميعا) فهذا الذي يحمل اسم الأطرش هو وحده القادر على السماع، وهو أكثر الناس سماعاً، ويطلب منه الشاعر أن يستمر في الثورة، وكان ذلك.
يوم الجلاء والفرحة
يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها كما وصفه الشاعر، وهو النقطة الفاصلة في حياة الشعوب، والإنسان السوري في ذلك اليوم عبّر عن مشاعره بشكل عفوي، وربما اكتسب الجلاء عن سورية ولبنان صفات عليا، لأن هذين البلدين هما أول بلدين جلا عنهما الاستعمار الغربي في منطقتنا، وذلك بعد أن ذاقا الويلات والدمار والعدوان، والسوريون يتذكرون، وكتب التاريخ تذكر مجازر الفرنسيين ضد السوريين، من العدوان على الآمنين والبلدات، إلى اقتحام المدن، إلى العدوان على دمشق القديمة وأحيائها، إلى العدوان على أعلى هيئة تشريعية في سورية هي البرلمان السوري، وما عرف بالمجزرة التي ارتكبت بحق رجال الدرك فيه وحامية البرلمان، وقد شهد القلة ممن بقوا على قيد الحياة بهذه المجازر، لكن ذلك لم يوقف السوريين عن المناداة بالتحرير وجلاء المستعمر، سواء كان ذلك في الثورة ودفع الأثمان الغالية من أرواح أبناء سورية، أم في المجال السياسي والمحافل الدولية من مؤتمرات عقدت في بلدان عدة، إلى جلسات أممية في مجلس الأمن، واستطاع السوريون الحصول على استقلالهم وحريتهم، والاحتفال باستقلالهم، الذي اكتسب قيمة كبرى، فمنذ دخول الأتراك إلى الأرض العربية غدت الأرض محتلة، ومع خروجهم في الثورة العربية الكبرى دخل الغربيون فلم يذق العرب طعم الحرية والاستقلال حتى كان فجر السابع عشر من نيسان في سورية ولبنان.
أصداء الجلاء في الشعر
قد يحتاج جمع الأشعار التي قيلت في الجلاء إلى مجلدات، وقد جمع الباحثون هذه الأشعار ولكن الذكرى تحتم الوقوف عند بعض هذه الأصداء، والجلاء عن سورية طرب له شعراء العرب عامة، ولم يتوقف الأمر عند مبدعي سورية، ففي مصر هبّ الشعراء، وهم يعرفون مكانة دمشق وسورية، ويقدرون تضحياتها، فالشاعر علي محمود طه الذي مجدّ يوسف العظمة يقول في الجلاء قصيدة جميلة في مخاطبة دمشق بلد الأحرار:
دمشق! أيا بلد الأحرار أي فتى
لم يمتشق فيك سيفاً أو يخضْ نارا
عيد الجلاء أسميه وأعرفه
يوم تبارك أنداء وأسحارا
وفي سورية صور الشعراء السوريون فرحة الجلاء، ومن درر تلك القصائد ما قاله الشعراء الذين كانوا يملؤون الساحة الشعرية، ومن أزهى الأمثلة ما كان في قصائد عديدة لشعراء سورية في حينها، عمر أبو ريشة وشفيق جبري وبدر الدين الحامد وبدوي الجبل:
يغني عمر أبو ريشة ا لجلاء:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
درج البغي عليها حقبة
وهوى دون بلوغ الأرب
وقف التاريخ في محرابها
وقفة المرتجف المضطرب
وشاعر الشام كما وصفه معاصروه والنقاد شفيق جبري أطلق أجمل شعره في الجلاء في قصائد عديدة، نرددها ونستعيدها، لما فيها من معاني البطولة والصمود والتمجيد للإنسان والحرية والوطن، فقال في قصيدة متفردة:
حلم على جنبات الشام أم عيد؟
لا الهم همّ ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة
أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد
يا فتية الشام للعلياء ثورتكم
وما يضيع مع العلياء مجهود
جدتم فسالت على الثورات أنفسكم
علمتم الناس في الثورات ما الجود
خلت ملوك وأرض الشام طاوية
تاج الملوك وتاج الشام معقود
وقال مرة أخرى مذكراً برحيل المستعمر:
قل للذين أذاقونا بليتهم
حتى نفضنا بلاء كان يؤذينا
ما كنتم غير حلم في نواظرنا
أدمى النواظر حيناً وانجلى حينا
أما الشاعر بدوي الجبل، صاحب القافية المتفردة والمعاني المبتكرة، فقد قال في الجلاء والحرية شعراً كثيراً، وفي قصيدته الجلاء رسم صورة متكاملة رابطاً بين الماضي والحاضر، وصور البطولة والاقتحام، واستمد من التاريخ صوراً غاية في الجمالية والتوفيق، واستعار رمزية دمشق في التاريخ:
الزغاريد فقد جن الإباء
من صفات الله هذي الكبرياء
بنت مروان اصطفاها ربها
لا يشاء الله إلا ما تشاء
انتزعنا الملك من غاصبه
وكتبنا بالدم الغمر الجلاء
وسقانا كأسه مترعة
وسقيناه وفي الكأس امتلاء
واقتحمناه حديداً ولظىً
وجزيناه اعتداء باعتداء
هذه الأرض لفرسانكم
ولعقبانكم هذا الفضاء
ملك مروان لكم وحدكم
قد جلا الإيمانُ كلّ الشركاء
الغد الميمون في الدنيا لكم
فاقتحم يا جيش واخفق يا لواء
ويبقى عيد الجلاء بعد عقود وعلى الزمن، هو الدنيا وزهوتها، وهو الذكرى التي يجتمع عليها السوريون.
ويتذكرون أولئك الذين دفعوا الحياة للخلاص من المستعمر، والذين افتدوا أوطانهم بأرواحهم، فتجاوزوا أهواءهم وانتماءاتهم لغاية نبيلة هي الحرية وجلاء المستعمر، وحين نقف عنده في كل يوم فإنما نمجد الحرية والاستقلال، ونعلي قدر الدولة الوطنية التي يمكن أن تحقق لنا ما نصبو إليه مع الفجر الآتي.