نشأ أيام الإمبراطورية البيزنطية نقاش عبثي يُعرف تاريخياً بالجدل البيزنطي، حيث أدمن مواطنو بيزنطة الجدل اللاهوتي، والنقاش حول طبيعة الثالوث المقدس، ولم يتمكن الإمبراطور قسطنطين الثاني من منع ذلك، على الرغم من إصداره مرسوماً يحظر هذه النقاشات تحت طائلة العقوبة، وفي أيامنا هذه يمكن اختصار الجدل البيزنطي بسؤال: هل الدجاجة وجدت أولاً أم البيضة؟
الوقت الذي أضاعه مواطنو بيزنطة في النقاش والجدل حول ماهية جنس الملائكة: هل هم ذكور أم إناث؟ وهل إبليس يبلغ من الحجم بحيث لا يتسع له مكان، أم أنه ضئيل إلى حد يمكنه العبور من ثقب إبرة؟ أدى لوصول السلطان العثماني محمد الثاني في القرن الخامس عشر لمحاصرة القسطنطينية، وسقوطها في النهاية بسبب النقاش العبثي الذي أشرنا إليه أعلاه، وهذا النمط من الإلهاء يزدهر في كل مرة يتعرض فيها شعب من الشعوب لحرب ما، ويأتي من الخوف من المصير المنتظر، والانشغال عنه بما لا جدوى منه، ولا نهاية واضحة له.
وفي عهد اليونانيين القدماء، نشأ مذهب آخر اسمه «السفسطة»، وظهر ذلك بعد النهضة التي عرفها اليونانيون إثر انتصارهم في حربهم مع الفرس، فظهر جيل من الشباب الداعين للابتعاد عن رموزهم الفكرية والعلمية بحجة أن ثقافة الأجداد تحد من الإبداع، وتضع حدوداً للإمكانات العقلية، فابتعد هؤلاء الشباب عن الفلسفة التي اشتق اسمها من لغتهم، والتي تعني «حب الحكمة» أو البحث عن الحقيقة، وتحولوا لجماعة تعمل على فرض آرائها على الآخرين عبر الجدل الذي لا يعرف حدوداً، ولا يستند إلى منطق، وإنما الجدل من أجل الجدل، ليصبح هؤلاء زواراً في بلدان مختلفة من أجل الارتزاق تحت عنوان تعليم من يريد الانتصار لقضية ما مهما بلغت من السطحية والسذاجة، ومهما احتوت من أخطاء وآلية القيام بذلك بوساطة الجدل مقابل أجر مادي.
كان السفسطائيون محدودي المعرفة بالعلوم والثقافة والفكر لكنهم امتلكوا اللغة، ويعتبرهم البعض أحد مؤسسي فن الخطابة الذي تحول لأداة لإقناع الجمهور بصحة المقولات ونقيضها عبر تطويع اللغة لخدمة أغراضهم، وحرف أذهان المتابعين لهم عن المنطق والصواب، ووصل هؤلاء لحد القول: «إن الحقيقة تدرك بالإحساس»، وليس بالعقل وفقاً للفلسفة.
وعلى الرغم من اختلاف الظروف والشروط التي أوجدت الجدل البيزنطي عن تلك التي ظهرت فيها السفسطة، لكن زمن الحروب والصراعات ثبت أنه الأرض الخصبة والمناسبة لتوالد أصحاب الطريقتين، ما يضيع جوهر القضية التي يتم بحثها، أو الحديث عنها، أي إضاعة الوقت في المماحكات والسجالات، والجدل من دون طائل أو فائدة تذكر لشطب أو تضييع البوصلة عن اتجاهها الحقيقي.
هذه المقدمة تدفعني لطرح جملة أسئلة مهمة على خلفية الرد الإيراني الأخير على الكيان الصهيوني، وحديث البعض عن مسرحية مرتبة، والبعض الآخر عن ضربة متفق عليها، والتي كتب عنها الكثير خلال الأيام القليلة الماضية، ومنها:
1- هل الرد الإيراني جاء كحالة عصبية، ونزقة من قبل طهران، أم نتيجة ارتكاب الكيان جريمة علنية ضد مبنى دبلوماسي إيراني بغض النظر عمن فيه من شخصيات عسكرية أو أمنية، وهنا نجد مخالفتين فاضحتين في القانون الدولي الأولى: الاعتداء على السيادة السورية، والثانية: تدمير مبنى دبلوماسي محمي بموجب اتفاقيات فيينا لعام 1961، وإذا كانت إسرائيل تتحدث عن وجود شخصيات عسكرية داخل المبنى، فهذا يعني أن من حق أي دولة أن تستهدف السفارات، والقنصليات لأنها بالطبع لا تضم ملائكة، بل شخصيات تعمل لمصالح بلدانها تحت صفات دبلوماسية وأمنية وعسكرية، وإذا تم السكوت عن الجريمة الصهيونية فهذا يعني فتح بوابات فوضى لن تنتهي على الإطلاق.
2- إن الحديث عن مسرحيات، واستعراضات هو كلام سخيف وسطحي، ذلك أن الصراع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة والغرب عامة، قديم يعود لعقود لسبب جوهري هو الاستقلالية، والمقاربات الفكرية والسياسية، ودعم قضية فلسطين وحركات المقاومة، وغيره الكثير من القضايا، وهنا نسأل: هل حرب صدام ضد إيران كانت مسرحية مثلاً؟! وهل استهداف القيادات العسكرية والأمنية الإيرانية مسرحية مثلاً؟! وهل استهداف العلماء الإيرانيين مسرحية مثلاً؟! وهل اغتيال 17 شخصية قيادية من قيادات الحرس الثوري الإيراني خلال أقل من عام هي مسرحية؟!
الحقيقة أن الجوهر هو ما أشرت إليه أعلاه، أي إن إيران دولة مستقلة تبحث عن مصالحها، ولكن لديها مبادئها، وعقيدتها، ومن الطبيعي أن تدافع عن وجودها، علماً بأنها تمتعت لفترة طويلة من الزمن بالمسؤولية، والحكمة، والصبر الاستراتيجي.
3- هل المشكلة لدى إيران أم لدى كيان فاشي- عنصري قتل عشرات آلاف الفلسطينيين، وجرح عشرات الآلاف الآخرين، ومتهم بجريمة الإبادة الجماعية، وتحول لكيان منبوذ عالمياً باعتراف من كبار كتابه وصحفييه، أي إنه لا يمكن القول: إن إيران هي المسؤولة عما يحدث، بل إن الجوهر هو في الاحتلال الصهيوني وداعميه الغربيين والمتواطئين معه، ولا يمكن عبر الجدل تضييع اتجاه البوصلة.
4- هل حركات المقاومة هي منتج إيراني، أم منتج شعبي ناتج من وجود الاحتلال، أي إن المقاومة هي حالة طبيعية ورد فعل على الاحتلال، وليست حالة تُركب من الخارج، فالفلسطينيون عرفوا المقاومة قبل إعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ كانت لديهم فتح، والجبهة الشعبية، والقيادة العامة، والديمقراطية، وغيرها، وظهرت منظمة التحرير الفلسطينية، وتعرضت قياداتها للاغتيال في عواصم، ومدن العالم، أي إن الكيان الصهيوني كان تاريخياً ينظر لأي شكل من أشكال المقاومة على أنه خطر كبير، لكن الشعب الفلسطيني أنشأ مقاومته وعبّر عنها بطرق مختلفة، ولم يتوقف عن ذلك وصولاً للمقاومة الباسلة في غزة.
الجوهر في الموضوع أن المقاومة ظاهرة طبيعية لدى كل شعوب الأرض، والمشكلة ليست في سورية أو إيران التي تدعم حركات المقاومة، إنما المشكلة في الاحتلال والاستعباد لدول وشعوب المنطقة من قبل عقل انغلوساكسوني مريض يعتقد أن بإمكانه الاستمرار بالطريقة نفسها، ويريد المحافظة على استعلائه وعنجهيته من دون أن تقاوم الشعوب أو الدول.
إن السفسطة والجدل البيزنطي الذي شهدناه خلال الأيام الماضية، وقبل ذلك بكثير حول دور إيران، أو السياسة السورية، يتغاضى بشكل واضح عن جوهر القضية أي الاحتلال الصهيوني، وحق الشعب الفلسطيني بالمقاومة، والدعم الأميركي- الغربي المطلق لإسرائيل، وحمايتها ككيان لا يحترم القانون الدولي، ولا يتطلع إلى سلام عادل وشامل، ويتعامل بفوقية واستعلاء وعنجهية، ويرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، ويعتقد بأنه من واجب الجميع أن يسكتوا ويصمتوا ويقبلوا بما تريده واشنطن من دون البحث عن مصالحهم الوطنية، وحماية استقلالهم وسيادتهم.
إن اختلاف التصورات الذهنية عن حقيقة ما يجري قد يولد أحكاماً خاطئة، مثلما قد يولد غياب المنطق عن السلوك أفعالاً خاطئة، والبعض ينصح هنا بالصمت كمساحة للتصويب، والحقيقة أن الصمت قد أصبح مستحيلاً وسط الفجور الصهيوني والأميركي والغربي ليس فقط في منطقتنا إنما على مستوى العالم ككل، وهنا لم يعد للجدل البيزنطي والسفسطة الغربية فائدة، فالجوهر هو سياسات الهيمنة والاستعلاء والاحتلال التي يعتقد البعض في الغرب أنه لا حقّ لأحد في سورية أو إيران أو روسيا أو الصين، أن يواجهها أبداً، وهنا يكمن لب المشكلة وجوهرها.
كاتب سوري