من حسنات التقانة أنها احتفظت لنا بكل شيء، وعرضته لنا ولو مرت عليه عقود، وعلى أقل تقدير منذ بداية تعاملنا الإذاعي والمرئي، فحققت لنا نوعاً من المعرفة والامتلاء، سلباً أو إيجاباً عن مراحل لم ندركها، وأخرى أدركناها ولم نكن نقدّر ما فيها، ومن ذلك الذي لفت انتباهي، ولا أملّ من متابعته، لما فيه من جمالية وأحكام نقدية وحياتية، واستعراض لأهم القامات الفكرية الإشكالية في نهضتنا الثقافية التي كانت، سهرات عميد الأدب العربي طه حسين، والمسجلة تلفزيونياً، ولا أقصد تلك التي يسأله فيها مذيع أو مذيعة، والتي تسأل العميد أسئلة محددة تحاول أن تراوغ في ميدان العقيدة والفكر، فتلك أحاديث يمكن أن نعثر عليها في كل مكان، بل يمكن أن نستخلصها من قراءة كتبه المنثورة بين أيدينا، بل أتحدث عن الجلسات العلمية المحفوظة، التي لا وجود فيها لمذيع أو إعلامي بتعبير اليوم، إذ يستحي كثيرون من أن يقولوا: الصحفي، المذيع، ويعرّفون عن أنفسهم بالإعلامي! وفي كل الأحاديث التي يتصدرها مذيع أو مذيعة يظهر البون شاسعاً، إذ يتحدث واحدهم بعامية أو بفصحى أقرب للعجمة، وعندما يتحدث العميد، يعيد السؤال بعربيته السليمة ثم يجيب! أما الندوات فهي أمر آخر، إذ يتحلق حول العميد عدد من الأسماء التي نجلها، وهي تستحق الإجلال، وكل واحد منهم يطرح سؤاله أو استفساره أو مداخلته، ليتحدث العميد بعدها، والفرق بين ما يتحدث به هؤلاء، وما يتحدث به المذيع كبير للغاية، ففي الوقت الذي يتحدث المذيع ظاناً أنه امتلك كل شيء، ويريد أن يقدم معلومة للمتابع، نجد هؤلاء يطرحون أسئلتهم من منظور ذاتي، وكل واحد منهم يريد أن يستخلص من العميد الرأي الذي يجعل ما يقوم به أقرب للسلامة والناس والنقد، والجميل أن العميد يجيب كل هؤلاء، ولا يعمد إلى مجاملة مهما كانت شفيفة، وربما قاطع واحدهم كأنه ينهره، والجميع يستمع، ولا يجد غضاضة في أن يرفع العميد صوته في وجهه!
العميد على كرسيه، وعيناه معلقتان في المطلق، لا يوجه وجهه لأي منهم، لأنه لا يرى، وعندما يأتيه الصوت يميل برأسه تجاهه، وحوله كوكبة من الأدباء الفرسان الكبار (نجيب محفوظ، يوسف السباعي، عبد الرحمن بدوي، محمود أمين العالم، أنيس منصور..) في زحمة الأعلام تغيب الأسماء الكبيرة، وكل واحد من هؤلاء قيمة في نفسه، وصاحب إرث فكري وأدبي لا يجارى، فما الإحساس الذي ينتابنا ونحن نراقب قامة نجيب محفوظ، وهي تسأل بحياء وتتلقى بالقبول؟ أو عندما نسمعه يجيب يوسف السباعي بشده، والسباعي يسمع وينصاع؟ بل ماذا ينتابنا ونحن نسمعهم يطرحون أسئلتهم عليه بعامية، فيصحح لهم لغتهم العربية قبل أن يتحدث؟
لم تأخذه نشوة وهو يشعر هؤلاء حوله، ويحاول الإبقاء عليهم مريدين يمارسون بهلوانية الفكر!
ولعلّ من أهم ما يمكن أن أذكره من تلك الندوة ما طرحه يوسف السباعي صاحب الروايات الشهيرة، وهو في عزّ مجده وشهرته وسطوته عن لغة الرواية ومفرداتها، واستخدام العامية في الكتابة الروائية، وكان العميد، الموسوم بعدائه للعربية والتراث!! حاسماً في رفضه المطلق لأي استخدام للعامية في الأدب، مميزاً ببراعة بين لغة الأدب ومفردات الشخصيات، فمهما كانت الشخصية الروائية وثقافتها لا يتنازل عن أن تتحدث بالفصحى، ولكن بالمفردات التي تناسب معرفتها وثقافتها، باستخدام لغة فصيحة مبسطة، وضرب لذلك أمثلة كثيرة، وحين ألحّ السباعي أسكته العميد بفصاحته، وكل من هو في الجلسة تحدث بعامية، بما في ذلك أساتذة الجامعة، والعميد وحده يتحدث الفصحى المزينة بالصورة والسهولة والفهم العميق، وكان الرأي واضحاً لغة فصيحة، ومفردات ملائمة، ذاك في الكتاب المطبوع، فماذا كان سيقول العميد لو استمع اليوم إلى دراما تاريخية تتحدث العامية تحت أي ذريعة؟ وماذا سيقول وهو يجد قاع المجتمع يطلق فلسفة يعجز عنها نيتشه وفرويد ولو بعامية ممجوجة؟!