أعادت الانتخابات المحلية التي جرت في تركيا نهاية آذار الماضي تشكيل المشهد السياسي في البلاد، ومني حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب أردوغان بهزيمة قاسية، وهي الهزيمة الأولى كاملة المواصفات التي يتلقّاها أردوغان، على امتداد ثلاثين عاماً من مسيرته السياسية؛ إذ شكّل تخطّي «حزب الشعب الجمهوري»، وللمرّة الأولى، النسبة التي نالها «حزب العدالة والتنمية»، ما يعتبر كسراً تاريخيّاً لـ«الخطوط الحمر» منذ عام 2002.
ويمكن القول إن انتخابات آذار 2024 البلدية في تركيا، أبطلت مفاعيل انتخابات أيار 2023 الرئاسية والنيابية، في اتّجاه بدء مرحلة جديدة تعيد خلط الأوراق، ونتائج الانتخابات المحلية التركية، كان لها صدى على المستوى الإقليمي والعالمي، لكونها، رغم أنها «خدمية»، إلا أنها أخذت طابعاً سياسياً كبيراً للمرّة الأولى، فمنذ وصوله إلى السلطة في عام 2002 يتعرّض «العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان، لهزيمة كاملة على مستوى تركيا، وأصبح «الحزب الثاني».
ويتقدَّم «الشعب الجمهوري» سائر الأحزاب في الانتخابات البلدية، ويحقّق نسبة 37.75 بالمئة مقابل 35.48 بالمئة لحزب أردوغان، الذي كان حصل على نسبة 44 بالمئة من أصوات الناخبين في انتخابات عام 2019.
أضحت إسطنبول وأنقرة وأزمير وأنطاليا، تحت سيطرة «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، وخسارة إسطنبول، بوجه خاص، ضربة قوية لـ«أردوغان» الذي بدأ حياته السياسية في البلاد رئيساً لبلدية إسطنبول عام 1994، ويقول أردوغان: «مَن يسيطر على مدينة إسطنبول يمكنه أيضاً حكم البلاد»، ويرى المراقبون أن أردوغان تذوق طعم كأس الهزيمة، التي كان يذيقها لخصومه طوال عقدين من الزمن؟ ويتساءلون هل الهزيمة بداية الهزائم للرئيس أردوغان؟ رغم الظروف الاستثنائية التي يشهدها العالم، في غزة وأوكرانيا، ومسلسل الانتخابات الأميركية الطويل، فإن الانتخابات المحلية التركية، فرضت حضورها وترافقت بظروف اقتصادية صعبة، ونسبة تضخم تصل إلى 70 في المئة، وغلاء مستفحل، وقد اختار الناخبون الأتراك إرسال رسالة إلى الرئيس التركي وقادة حزبه، وحملت الرسالة إنذاراً نهائياً.
الهزيمة الانتخابية لأردوغان تضع علامات استفهام كبيرة أمام خطته للبقاء في القصر الرئاسي، بتعديل نصوص الدستور، ما يتيح له الترشح مجدداً للانتخابات الرئاسية عام 2028، والمشهد السياسي بعد الانتخابات البلدية في تركيا 2024 لوحة تختلف عن تلك التي رسمتها نظيرتها الانتخابات الرئاسية 2023 عندما كرس حزب «العدالة والتنمية» زعامته في الرئاسة والبرلمان على حد سواء، لكن اللوحة الجديدة تظهر بانقلاب المشهد الذي بدأ عام 2002 والمستمر حتى اليوم، وكأن زمن هزائم أردوغان قد بدأ، ويمكن إرجاع خسارة «حزب العدالة والتنمية» إلى العامل الاقتصادي؛ فقد انهارت القدرة الشرائية للمواطن، وتراجع سعر صرف الليرة بنسبة 60 بالمئة عمّا كان عليه قبل عشرة أشهر.
إن التصويت ضدّ أردوغان كان بمنزلة رسالة احتجاج وغضب من الفئات التي ازدادت فقراً من جراء السياسات الريعية والإنفاق العبثي من دون ضوابط ولا رقابة ومن شأن نتائج الانتخابات البلدية، أن تترك تداعيات كبيرة على المشهد السياسي الداخلي وربّما الخارجي، لعلّ أبرزها ما يلي:
1- فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول ربّما يشكّل القلق الأكبر لأردوغان شخصيّاً، الذي كان يأمل في إقصاء أكبر منافس له على الساحة السياسية، ذلك أن له حظوظاً كبيرة للفوز بالرئاسة في حال كان المرشّح المقبل للرئاسة ضدّ أردوغان.
2- كان أردوغان يراهن على الفوز في إسطنبول على الأقلّ، ليقول إنه قويّ بما يكفي ليحاول تعديل الدستور بما يتيح له الترشّح مرّة أخرى للرئاسة.
3- يدرك الرئيس التركي أن «حزب الرفاه الجديد» بات يشكّل «حصان طروادة» داخل الحالة الإسلامية، بينما أضحى زعيمه فاتح أربكان، وجهة الفئات الإسلامية المعارضة لسياسات أردوغان.
على الصعيد الدولي اتسم حكم الرئيس أردوغان في تركيا بتوازن دقيق بين الحفاظ على العلاقات مع حلفاء تركيا الغربيين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والسعي أيضاً إلى إقامة علاقات أوثق مع دول مثل روسيا والصين، وقد تجلى هذا بشكل خاص في العلاقات مع روسيا في قطاع الدفاع، إثر شراء تركيا نظام الدفاع الصاروخي الروسي «إس 400».
وقد أثارت هذه الخطوة توتراً مع حلفاء تركيا الغربيين، وقد تؤثر نتائج الانتخابات الأخيرة في قدرة أردوغان على إعادة ضبط أولويات السياسة الخارجية لتركيا، وقد تكون لذلك تداعيات إقليمية، وخاصة ما تعلق منها بسورية حيث تحتل تركيا أراضي في شمال سورية وتدعم التنظيمات الإرهابية.
من جهة أخرى حافظت تركيا وإسرائيل على التعاون، وخاصة في مجالات التجارة والأمن رغم ادعاء أردوغان أنه يؤيد الشعب الفلسطيني.
الانتخابات المحلية في تركيا رسالة تحذير لأردوغان وحزبه الحاكم، والمراقبون يرون أن هزيمة أردوغان تعتبر بطاقة صفراء تحذيرية، بسبب غطرسته، وقضية الرجل الواحد «المستبد أردوغان»، فضلاً عن الظروف الاقتصادية، وكيفية تعاطي الحكومة مع ملف حرب غزة.
ثمة سؤال: هل الانتخابات الأخيرة هي وداع مبكر لأردوغان أم بحث عن تعاطف الناخبين؟ لقد تحدث أردوغان للمرة الأولى عن ترك منصبه، ولم يقصد الرحيل قريباً، بل كان يُشير إلى ما بعد ولايته الثانية التي تنتهي عام 2028، قائلاً إن الانتخابات المحلية المقبلة خلال هذا العام ستكون الأخيرة له.
تصريحاته غير المسبوقة فتحت الباب أمام تساؤلات بشأن حقيقة رغبته في اعتزال الحياة السياسية، أو ما إذا كانت مجرد مناورة من شخصية اعتادت التلاعب بخصومها، الأكيد أن الزلزال الذي أحدثته نتائج الانتخابات البلدية، وضع تركيا أمام مرحلة جديدة تكون السلطة في اتّجاه مراجعة نقدية لسياساتها منعاً لمزيد من الضمور، والمعارضات من أجل تشديد الخناق على السلطة تمهيداً لإسقاط تحالف النزعة الدينية- القومية الذي يمثّله حزبا «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية».
سيدعو «حزب الرفاه» إلى انتخابات مبكرة، لأن «الحريق بات في المطبخ»، بعدما بات 90 بالمئة من السكان تحت خطّ الفقر، و56 بالمئة تحت خطّ الجوع، وفقاً لتصريح محمد ألتين أوز، مرشّح حزب العدالة.
إن خسارة أردوغان لحظة مفصلية في تاريخ تركيا، وكانت نتائج الانتخابات المحلية بمنزلة توبيخ لأسلوب قيادة أردوغان وسياساته وأدت لسيطرة المعارضة على المناطق التي كانت تعتبر في السابق معاقل لحزب العدالة والتنمية.
وعكست النتائج السخط المتزايد على حزب العدالة والتنمية، ويبدو أن زمن الهزائم لأردوغان قد بدأ.
وزير وسفير سوري سابق