مازالت تداعيات ما حصل في فجر 14 نيسان الجاري من رد عسكري للجمهورية الإسلامية الإيرانية على الكيان الإسرائيلي بعد عدوان الأخيرة على مبنى القنصلية الإيراني في دمشق يرخي بظلاله على مستوى النظامين الإقليمي والدولي، ولا يبدو على الأقل في المرحلة الراهنة أن هذه التداعيات والآثار ستنتهي عند هذا الحد من مفاعيل وتطورات تصاعدت لحد الانفجار الإقليمي، بل على العكس، فإن كل المؤشرات والمعطيات تؤكد عدة حقائق في هذا الإطار، أول تلك الجوانب أن هذا الرد رسم وحدد قواعد اشتباك وموازين قوى جديدة في إطار الصراع الإيراني الإسرائيلي من ناحية، ومن ناحية أخرى ضمن الصراع المحتدم بين قوى وفواعل محور المقاومة ضد هذا الكيان، أما الجانب الآخر فإن الرد لم يكن فقط موجهاً ضد الكيان وإن كان بصورته الشكلية هو كذلك، بل حملت العمليات العسكرية الإيرانية رسائل متعددة لقوى الإقليم والعالم فيما يتعلق بتمسك إيران بحقها في الدفاع عن سيادتها وعن تمسكها بدعم حلفائها وبعدم السماح لأي من الفواعل السياسية بتجاوز قواعد الاشتباك وخطوطها الحمر، وفي إطار تحسين التموضع التفاوضي لطهران مع الغرب فيما يتعلق بمباحثاتها في الملف النووي أو دورها الإقليمي، على حين يتجلى الجانب الثالث بهشاشة وضعف وتآكل المنظومتين الإقليمية والدولية بما تتضمنه من تصاعد وتيرة الصراعات وانتقال المواجهة من الظل إلى العلن، وفقدان المنظمات الدولية لشخصيتها والإرادة والوسائل والقدرة على القيام بواجباتها في صيانة الأمن والسلم الدوليين وفق ميثاقها التأسيسي ومبادئها البراقة التي تبنتها بعد الحرب العالمية الثانية لتفادي الثغرات التي ظهرت على البنية الدولية لهذه المنظمات بعد الحرب العالمية الأولى.
بالعودة لتطورات الصراع والمواجهة الإيرانية- الإسرائيلية، فإن قدرة القوات الإيرانية على استعراض جزء من مقدراتها العسكرية من صواريخ وطائرات مسيرة، شكل حالة من الارتباك والإخفاق الاستخباراتي لتل أبيب التي وفق وسائل إعلام مقربة من صنع القرار لمجلس الحرب والمجلس الوزاري المصغر «الكبينت» لم تتوقع رداً عسكرياً إيرانياً مباشراً وبهذا الثقل العسكري، كما أنه شكل فشلاً في القدرات الردعية لقوات الاحتلال وشركائها الدوليين في العواصم الغربية من التصدي للقوة النارية التي أطلقتها طهران باتجاه الأراضي المحتلة.
هذا الواقع، دفع أركان الحكومة الإسرائيلية وفي مقدمتهم رئيس هذه الحكومة بنيامين نتنياهو إلى تصعيد تصريحاته ضد الجمهورية الإسلامية، متوعداً باستهدافها والانتقام منها، إلا أن نتنياهو الذي يعاني من إخفاق في تحقيق أهدافه المعلنة وغير المعلنة من عدوانه على قطاع غزة رغم مرور سبعة أشهر على بدء هذا العدوان، والساعي لتوسيع دائرة الصراع الإقليمي لجر الغرب نحو هذا التصعيد وتصدير أزماته الداخلية بما يضمن استمرار بقائه في السلطة، وجد نفسه بين خيارين، الأول شن عدوان مباشر على إيران بقدر حجم الرد الإيراني، أو استثمار هذا الواقع لابتزاز الغرب لتحقيق مصالح شخصية وإستراتيجية.
الخيار الثاني كان توجه نتنياهو، إلا أن هذا الكيان لم يتبن بشكل شخصي أو حكومي الهجوم العدواني الذي شهدته الجغرافيا الإيرانية فجر التاسع عشر من الشهر الجاري من خلال طائرات مسيرة صغيرة، إلا أن هناك الكثير من الملاحظات التي يمكن الإشارة إليها من خلال ما حصل خلال وبعد تعرض الجمهورية الإسلامية الإيرانية لهجوم بالمسيرات، أبرز هذه الملاحظات تتمثل في:
أولاً- رغم عدم تبني الكيان بشكل رسمي حتى إعداد هذه المقال بمسؤوليته عن شن هذا العدوان واستمرار التحقيقات الإيرانية لمعرفة من يقف خلفه وفق التصريحات الرسمية، إلا أن هناك العديد من الدلائل التي تؤكد اضطلاع إسرائيل بهذا العدوان، وأبرز هذه الدلائل تتمثل فيما صرح به وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد ختام اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة السبع في إيطاليا «أن بلاده لم تشارك في أي عمليات هجومية ضد إيران».
ثانياً- إلغاء وتأجيل اجتماع مجلس الحرب الذي كان مقرراً في داخل الكيان قبيل ساعات من هذا العدوان، وهذا التأجيل قد يكون فعلاً نتيجة الخلافات الحاصلة بين أركانه حول شكل ونوعية الرد لأن هناك من يطالب باستخدام القوة الفائضة ضد إيران بما تناسب بحجم القوة الصاروخية والنارية التي انطلقت من القواعد العسكرية الإيرانية، وتيار آخر عبر عن خشيته من تداعيات الرد الواسع سواء كان ذلك فيما يتعلق باحتمالية إقدام طهران وحلفائها في المنطقة للرد بحزم أو فيما يتعلق بزيادة الخلاف مع الإدارة الأميركية في واشنطن الساعية لضبط وتيرة الصراع، أو قد يكون سبب التأجيل مناورة في محاولة لخداع إيران والمنطقة بأن موضوع الرد قد تأجل مع تأجيل الاجتماع سعياً لامتلاك عنصر المباغتة والمفاجأة.
ثالثاً- الضخ الإعلامي وكمية الإشاعات التي ضخت مع الدقائق الأولى لبدء استهداف إيران، وهو ما يوحي أن هناك جهات وقوى كانت تريد محاولة تقديم صورة إنجاز إعلامي لإسرائيل أكثر من كونه إنجازاً عسكرياً في الرد على الرد، وذلك لتحقيق مآرب عدة منها استعادة هيبة إسرائيل في قواعد الردع والتوازن على مستوى المنطقة، ولاستعادة ثقة المستوطنين بقدرات مؤسسات كيانهم العسكرية والأمنية في إطار الصراع الإقليمي، وهذا يبرز في محاولة تصدير الأنباء التي تتضمن نجاح العدوان في تحقيق أهدافه في أصفهان وتبريز وهو ما نفته طهران.
رابعاً- الصمت الإسرائيلي الكامل بالنسبة للهجوم على إيران، باستثناء تغريدة وزير الأمن القومي الإسرائيلي ايتمار بن غفير الذي نشر تغريدة وصف بها الهجوم بالضعيف، وهو ما يعني أن إسرائيل لم تعلن عن الرد خشية الرد الإيراني، أو لكون الرد ضعيف وأوكلت لوسائل الإعلام والمسؤولين الأميركيين هذه المسألة، أو لكون ما حصل قد يكون مقدمة ومحاولة خداع لهجوم أكبر بعد معرفة المقدرات والجهوزية للدفاعات الإيرانية أو تصنيفها ضمن «جس النبض»، لكون ما حصل لا يتعدى الإطار الأمني وليس العسكري.
خامساً- في حال اكتفت إسرائيل بهذا الرد، فإن أبرز ما يعني ذلك يتمثل في عدة نقاط:
– إغلاق ملف المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب والعودة لما يعرف بحرب الظل.
– نجاح واشنطن في عدم جر المنطقة لحرب مفتوحة وتصعيد لا تريده لأسباب انتخابية أو للحفاظ على مصالحها في المنطقة.
– إثر تصعيد الجبهة الجنوبية اللبنانية في ردع أي هجوم إسرائيلي كبير بعد عدة عمليات أبرزها عملية «عرب عرامشة»، لما تضمنته هذه العمليات من رسائل ردعية.
– نجاح نتنياهو في التوصل لصفقة مع واشنطن، نتيجة حنكته الابتزازية، تمنحه من خلالها الأخيرة، فرص وخيارات هو بحاجة لها داخلياً وخارجياً، أبرزها ضمان عدم الاستعانة بخصوم نتنياهو الداخليين لإسقاط حكومته وتخفيف الضغط عليه في هذا الجانب، والتعاون الأمني والعسكري لاجتياح رفح، فضلاً عن إعادة تلميع صورة الكيان دولياً والعودة لرفع مستوى المساعدات العسكرية وغير العسكرية لتل أبيب إلى جانب فرض العقوبات على إيران فيما يتعلق ببرنامجها الصاروخي.
ما حصل من اعتداء إسرائيلي على مبنى القنصلية والرد الإيراني فجر 14 نيسان وصولاً لاستهداف إيران ببعض المسيرات وما تلاه من استهداف لقاعدة الحشد الشعبي في منطقة بابل قرب العاصمة بغداد، يؤكد أن المنطقة تعاني من تصدع وهشاشة في بنية منظومتها الأمنية وهي قابلة للانفجار في أي لحظة، والعودة لصراع الظل تكاليفها أقل بكثير من المواجهة المباشرة، التي قد تتضمن عواقب غير محمودة وتداعياتها وتأثيراتها أكبر بكثير من أي مواجهات أخرى سواء تلك التي في أوكرانيا أو أفريقيا أو جنوب شرق آسيا.
كاتب سوري