في العرف العسكري والمدني، فإن استقالة هذا المسؤول أو ذاك أمر بديهي، وشيء طبيعي في ظروف طبيعية، بخلاف استقالة رئيس «شعبة الاستخبارات العسكرية- أمان» في الجيش الإسرائيلي أهارون هاليفا، بعد ستة أشهر على عملية «طوفان الأقصى»، وأسابيع على «الوعد الصادق»، حيث إن تلك الاستقالة لن تتوقف عند ذاك الحد، بل هي مجرد بداية لتدحرج كرة الإخفاقات الإسرائيلية في تقدير الأوضاع التي تحيط بها، والتي يرجح لها أن تكبر أكثر وأكثر، حاصدة معها رؤوساً إسرائيلية كبيرة وصولاً إلى إعلان وقف العدوان على قطاع غزة، وبدء مشهدية جديدة لن تكون كسابقتها طوال فترة وجود الكيان بالمنطقة.
اليوم وبعد إعلان اثنين من قادة جيش الاحتلال عن تحملها مسؤولية الفشل في تقدير قوة ونيات حركة حماس قبيل «طوفان الأقصى»، وحجم رد إيران على استهداف قنصليتها في دمشق بداية الشهر الحالي، يبدو أن سبحة الاستقالات وكرة ثلجها ستتدحرج بقوة في قادم الأيام، إذ أعلن قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي اللواء يهودا فوكس أول من أمس، اعتزامه الاستقالة من منصبه في شهر آب المقبل.
تؤكد المعلومات التي تداولتها وسائل إعلامية إسرائيلية، أن سرعة تدحرج الاستقالات في الجيش الإسرائيلي لن تتوقف عند رئيس «أمان» ولا عند فوكس، نظراً لشدة انحدار مسار الكرة الناتج عن جملة الإخفاقات في داخل الكيان وتقدير قادته لجميع ما حدث ما بعد «طوفان الأقصى» سواء على جبهة الجنوب مع المقاومة الفلسطينية، أم الشمال مع حزب الله، أو الجبهة الخارجية مع إيران واليمن والفصائل العراقية، وعليه تؤكد صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أنه سيكون لاستقالة هاليفا موجات أوسع بكثير، تتجاوز حدود شعبة «أمان» نفسها لتطول رئيس الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس الشاباك رونين بار، وعدداً من مسؤولي جهازه، والرئيس الحالي لقيادة المنطقة الجنوبية يارون فينكلمان وسلفه أليعزر طوليدانو، ورئيس شعبة العمليات، وقائد فرقة غزة آفي روزينفلد، وغيرهم من المسؤولين، حيث جميعهم على قائمة المسؤولين المباشرين عن إخفاقات الكيان ما بعد السابع من تشرين الأول الماضي.
كلام «هآرتس» يؤكد أن استقالة هاليفا، ثم فوكس، ليستا حالتين فرديتين، وهما مجرد إطلاق الرصاص على قدميهما، وبأنهما ليسا مجرد كبش فداء قدما نفسيهما على مذبح هزيمة الكيان في وجه دول وفصائل محور المقاومة، وبأن تلك الاستقالتين سوف تنهيان الإرباك والانقسام داخل الكيان، بل هما أول أحجار الدومينو الإسرائيلية المتساقطة، ليس على الصعيد العسكري فقط، بل على المستوى السياسي، حيث تقول «هآرتس» الإسرائيلية: «من غير المعقول أن نتخطّى حقيقة أن هناك شخصاً واحداً يرفض حتى الآن تحمّل أي مسؤولية عن الكارثة التي وقعت في نوبته، وإلى حدّ كبير نتيجة لسياساته، وهو رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو».
ليس من المبالغة البناء وبشكل أساس على استقالة هاليفا، ومن ثم فوكس، في قراءة ما ينتظر إسرائيل من مستقبل أسود، لجهة كونه بداية لإعلان الهزيمة وبشكل رسمي، فإذا كان رئيس «أمان» أخذ على عاتقه الفشل في تقدير نيات حركة حماس ما قبل «الطوفان» وفي تقدير حجم رد إيران على استهداف قنصليتها في دمشق من خلال عملية «الوعد»، وصولاً إلى انحدار الأوضاع الإسرائيلية من حافة الهزيمة، فمن المؤكد أن الحديث هنا ليس عن استقالة رئيس قلم ديوان في مديرية للري أو مديرة في دائرة الأحوال الشخصية، بل عن استقالة رئيس أضخم شعبة في الجيش الإسرائيلي، مسؤولة عن رصد تحركات «العدو»، وتحليل المعلومات الهائلة التي تتجمع لديها، واستخلاص الاستنتاجات إزاء نياتها، ومسؤولة عن التحذير من النشاطات والنيات الحربية، وبناء على تقديراتها يتم وضع الخطط الحربية الإسرائيلية، إضافة إلى أن الضربات التي تلقتها «أمان» ما بعد السابع من تشرين 2023 يذكر بما تلقته تماماً ما بعد السادس من تشرين 1973.
دائماً ما كان قادة الكيان الإسرائيلي يرجئون خلافاتهم الداخلية إلى ما بعد أي استحقاق يهدد الكيان وجودياً، إلا أن أولئك القادة شذوا عن القاعدة العامة تلك منذ بداية عملية «طوفان الأقصى» إذ سرعان ما بدؤوا بتقاذف الاتهامات حول الإخفاق في كشف ومنع ما قامت به المقاومة الفلسطينية، ليسبب جميع ما قاموا بعد ذلك لتدارك إخفاقهم في السابع من تشرين الأول الماضي، في زيادة ورطتهم وفشلهم، ولتتحول جميع أعمالهم من العدوان الكبير على غزة والمواجهة مع حزب الله، وشن العدوان على سورية ومصالح إيران في المنطقة، إلى كمن يحفر في حفرة وقع فيها.