ربما تعد عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، الحرب التي يعترف معظم القادة العسكريين والسياسيين بالهزيمة الأشد قسوة فيها بالمقارنة مع حرب تشرين عام 1973 التي لم تدم أكثر من ثلاثة أسابيع. ويستندون في هذا الاستنتاج الواضح إلى إخفاق وانهيار ما يسمى بـ«عقيدة الأمن القومي الإسرائيلية» التي وضعها ديفيد بن غوريون منذ عام 1953، وكان جميع المسؤولين الإسرائيليين يعترفون بصلاحية هذه العقيدة طوال أكثر من سبعين عاماً.
في مقابله أجراها قبل أسبوع موقع «بودكاست» الخاص بـ«معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» يعترف رئيس منظمة الموساد للتجسس والعمليات السرية سابقاً الجنرال المتقاعد داني ياتوم بأن «الثالوث المقدس الذي عدته القيادة العسكرية والسياسية في عهد بن غوريون منذ الخمسينيات باسم عقيدة الأمن القومي، انهار كلياً في السابع من تشرين الأول عام 2023»، ويذكر أن المقصود هو المرتكزات الأساسية الثلاثة للأمن الإسرائيلي وهي «تأمين الإنذار المبكر، الردع، وحسم الحرب بالسرعة الممكنة»، وأضاف ياتوم: إن الفلسطينيين تغلبوا على الإنذار المبكر وأبطلوا مفعوله وسيطروا على عنصر المفاجئة لأيام وليس لساعات، وأن قادة الجيش والسياسة اعتقدوا أن الفصائل الفلسطينية يسيطر عليها الردع الإسرائيلي ويمنعها من القيام بأي عمل عسكري واسع، وفي النهاية ل م يتمكن الجيش من حسم الحرب مع الفصائل الفلسطينية طوال ستة أشهر، وأوضح ياتوم أن هذه النتيجة كانت تخشى الولايات المتحدة من حدوثها ولذلك سارع الرئيس الأميركي جو بايدين إلى إرسال حاملتي طائرات تحملان ذخائر كثيرة لاستخدام إسرائيل وشكلت الحاملتان «قدرة ردع خارجية أميركية» ضد أي طرف يفكر في المنطقة باستغلال هذا الوضع العسكري الإسرائيلي المنهار.
الكل يدرك ويعترف بأن الكيان الإسرائيلي ليس بمقدوره تحمل حرب طوال ستة أشهر، وفي كل ساعة تتواصل وبوجود كل جنوده من الجيش النظامي وقوات الاحتياط التي استدعاها وبلغ عددها 360 ألفاً، تتواصل مظاهر الانهيار العسكري التي ينتج عنها انهيار مضاعف في صفوف المستوطنين، ولذلك لجأ الكيان بسبب عجزه أمام المقاومين وقدراتهم ونجاح تكتيكهم، إلى تكثيف الغارات الجوية وإسقاط عشرات الآلاف من أطنان القذائف على الأطفال والنساء وتدمير البيوت بهدف ردع المقاومين ودفعهم إلى الاستسلام أو الكف عن تنفيذ عملياته، لكن هذه الإستراتيجية التي استخدمها بقتل أكبر عدد من المدنيين وتدمير بيوتهم، خلقت له جبهة عالمية خارجية مناهضة لشرعية وجوده ومنددة بجرائمه التي وصفها العالم ومحكمة الجنايات الدولية بجرائم إبادة شعب، وبهذه النتيجة أصبح الكيان مجرد آلة إرهابية في نظر شعوب الكرة الأرضية، وبالطبع ليس في نظر معظم حكومات الغرب الاستعماري في أوروبا والولايات المتحدة الذين استمروا بدعمه بأسلحتهم وذخائرهم ومواقفهم السياسية.
لكل ذلك يقول ياتوم إنه «لولا الدعم الأميركي والغربي، لما تمكنت إسرائيل من الصمود لكل هذه المدة الطويلة منذ ستة أشهر»، فحين تقل الذخائر ولا يجد لها الكيان بدائل مستمرة، ينهار معظم الجنود ويبدأ المستوطنون بالفرار بشكل مكثف من مستوطناتهم إلى خارج الكيان وتزداد بالمقابل في قطاع غزة والضفة الغربية قدرات المقاومين وتفوقهم في زمام المبادرة الهجومية واتساع رقعة عملياتهم، وحينئذ لن تنفع الغارات الجوية في إيقاف هذا الانهيار حين تفقد الكثير من ذخائرها حتى لو دمرت البيوت والقرى وهو ما حدث في قطاع غزة، مع استمرار عمليات المقاومة فيه حتى الآن.
في النهاية لم تستطع القوى الاستعمارية إنقاذ الكيان من هزيمة واضحة تكبدها بشكل غير مسبوق من جبهتي مقاومة في الشمال من حزب اللـه وفي الجنوب من فصائل المقاومة الفلسطينية وبدعم من محور المقاومة كله، ولولا دعم القوى الغربية للكيان بهذا الشكل لأصبحت هزيمته حاسمة ونهائية في هذه المرحلة، لكنه رغم هذا الدعم وتأثيراته في ميدان المعركة تلقى الكيان هزيمة حاسمة أمام الحملة العالمية التي نددت بجرائمه طوال أكثر من ستة أشهر، وقد رسخت هذه الحملة انتصارها في سجلات تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني وزودت فصائل المقاومة بذخائر دعم عالمي لا يمكن إيقاف استمرار وجودها على طريق استعادة الحقوق الفلسطينية ودحر قوى الاستعمار والامبريالية التي أنشأت هذا الكيان على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه ومقدساته التاريخية، ويبدو أن المفكر الصهيوني والروائي عاموس عوز كان أول من توقع أن تواجه إسرائيل هذه الهزيمة على طريق هزيمتها الحاسمة والنهائية الكلية.