قضايا وآراء

الشرق والاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأميركية.. وماذا عن ديمقراطيتنا نحن؟!

| فراس عزيز ديب

الجامعات الأميركية تنتفض ضد الجرائم المفتوحة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، خبر كاف ليُشعرنا بحجم الخذلان التي تعيشهُ غزة خصوصاً والشعوب المقهورة في هذا الشرق البائس عموماً، لكنه بالوقت ذاته خبر أعادنا إلى ذاك الزمن الجميل عندما كان المثقفون والنخب يحملون راية التنوير تلاحقهم طيور الظلام حيث يشكل النور أجنحة الخلاص والتطلع نحو التغيير، قبل أن تحل علينا لعنة ربيع الدم العربي التي جعلتنا نرى إمعات وقطاع طرق برداءٍ طاهر يخرجون من الجوامع بصيحاتٍ مذهبية يدَّعون التطلع نحو التغيير عبر قتل وسحق من لا يتبعهم!

الأحداث التي بدأت من جامعة كولومبيا ما لبثت أن أخذت تتمدد في الداخل الأميركي وحتى خارج الحدود، بعض الصور الواردة من هناك باتت «تريند» على مواقع التواصل الاجتماعي بكل اللغات، وكان آخرها اعتقال رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري البرفيسورة نويل ماكافي، ما ترك الكثير من الأسئلة مشرَّعة بلا أجوبة، ما حدود هذه التحركات التي يبدو كأنها تغرد خارج سرب الإرادة الأميركية؟ وهل فعلياً قابلة للتمدد والتحول إلى ثورة تطيح بما حولها والأهم من ذلك، كيف يمكن إسقاط أحداث كهذه على واقعنا المزري؟

للإجابة عن هذه التساؤلات دعونا أولاً نتذكر بأن آخر حراك طلابي أثمر تغييراتٍ جوهرية في بنية نظام الدولة كان التحركات الطلابية التي ضربت فرنسا في نهاية ستينيات القرن الماضي أو ما يعرف هنا في فرنسا بأحداث أيار 1968، يومها بدأت الاحتجاجات الطلابية من قاعات المحاضرات اعتراضاً على الكثير من المظالم الداخلية والخارجية، حرب فيتنام وموقف فرنسا المتأرجح منها خوفاً من إغضاب حليف هزيمة النازية وتحرير باريس، أي الولايات المتحدة الأميركية، كذلك الأمر ساهم الصعود الصاروخي للرأسمالية وتراجع اليسار بتصاعد الاحتجاجات نظراً لما سماه يومها قادة الحراك «البؤس الطلابي» الذي أجبر الكثير من الطلاب على هجرة مقاعد الدراسة بسبب الفقر وانعدام المساعدات الحكومية للطبقات الأكثر فقراً، هذه الاحتجاجات لم تقف عند قاعات المحاضرات بسبب التعاطي غير المنضبط معها من قوات الأمن والشرطة، حيث كان العنف والسحل والاعتقال، الأمر الذي ساهم بتوسيع قاعدتها الشعبية مع دخول باقي النقابات خضم الاحتجاجات، هذا الدخول أفضى إلى حدوث إضرابات شلَّت حركة البلاد لتنجح الحركة في نهاية المطاف بتحقيق الكثير من المطالب على المستوى الداخلي، من بينها رحيل أحد أهم رموز الجمهورية الخامسة ومهندس إنهاء حرب الجزائر التي استعصت لعقودٍ طويلة الجنرال شارل ديغول، وما يعنيه هذا الاسم كرمزٍ لم توفره حالة الغضب إن خرجت من قمقمها، لكنها على المستوى الخارجي لم تنجح بتحريك المياه الراكدة في السياسة الخارجية أبداً وهذا منطقي، لأن سياسات الدول لا تبنى على العواطف بقدر ما تبنى على الهدف من التحالفات بميزان الربح والخسارة لا بميزان الشعارات المستهلكة!

اليوم، لو أردنا إسقاط هذه الأحداث على ما يجري في بعض الجامعات الأميركية لوجدنا القليل من الشبه والكثير من الاختلافات التي قد نلخصها بما يلي:

أولاً: مما لا شكَّ فيه أن هذه الاحتجاجات الطلابية التي يجب أن تلقى منا كل الاحترام والتقدير، نجحت إلى حدٍّ بعيد بإعادة التركيز على ما يجري في فلسطين المحتلة وبالتالي التبرؤ ولو بشكلٍ غير مباشر من دعم الإدارة الأميركية غير المحدود للكيان الصهيوني، لكن سياق الاحتجاجات يبدو بسقوفٍ واضحة كوقف الدعم العسكري للكيان أو مطالبة الجامعات بوقف تعاملها العلمي والتجاري مع إسرائيل، أحد المحتجين قالها صراحةً: «نحن هنا لسنا ضد إسرائيل لكننا ضد الجرائم التي ترتكبها هذه الحكومة المتطرفة».

بالسياق ذاته فإن هذه الاحتجاجات غاب عنها القائد أو ما يسمى أيديولوجياً، حملة الراية الثورية، هذا الغياب جعلها تبدو أقرب لردات الفعل الارتجالية، أي إنها غير مطابقة لما جرى في فرنسا حيث كان الحراك ومن يومه الأول يحظى بمباركة عدد كبير من مشاعل الفكر وأصحاب الرأي الذين بصموا في الحياة الفكرية داخل فرنسا وخارجها بمعزلٍ إن كنا نتفق أو نختلف معهم، كجان بول سارتر الملقب بزعيم الفلسفة الوجودية، وسيمون دي بوفوار التي هي كذلك الأمر شكلت علامة فارقة في الفكر الفلسفي الفرنسي، وغيرهما كثر، لكن أين هم اليوم قادة الفكر من هذا الحراك الذي يضرب الجامعات الأميركية؟

ثانياً: عندما نتحدث عن أي حراك أو ثورة في هذا العالم دعونا أولاً وأخيراً نتحدث عن الإطار الحر الذي يتحرك فيه المحتجون، هل هو انقلاب على الأنظمة والقوانين طمعاً بالتغيير؟ كما حدث في كل حالات ربيع الدم العربي من دون استثناء، والذي تحول إلى طمع بسبعين حورية؟! أم هو حراك ضمن الأنظمة والقوانين بهدف قرع جرس الإنذار تجاه أمرٍ ما بات عبئاً على المجتمع؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو جوهرية في وقتنا الحالي لمعرفة مآلات أي حراك، فحالة التمرد الفرنسية نجحت لأنها كانت بدافع داخلي أولاً وأخيراً، لذلك تمكّن قادتها من النجاة بها من سيف التخوين أو التبعية وحققوا التغيير المنشود، أما في الحالة الأميركية فالوضع حكماً مختلف وعلينا فعلياً ألا نفرط بالتفاؤل حول مآلات هذه الاحتجاجات لأن جوهرها مرتبط بمسألة خارجية، وسقف المطالب محاط بالكثير من المطبات التي عمل عليها رعاة الصهيونية في العالم عبر عقود تحسباً للحظاتٍ كهذه، تبدأ بمعاداة السامية وما تعنيه هذه التهمة الجاهزة لكل من ينتقد الهمجية الإسرائيلية في دولة هي الراعي الرسمي لكل هذه الهمجية، وتنتهي بدعم الإرهاب، هذه الفكرة التي استحدثها الكيان الصهيوني مستفيداً من أحداث السابع من تشرين الأول الماضي بوصفه عملاً إرهابياً، قامت به منظمة إرهابية، ما يعني أن المحتج هنا يرزح بين مطرقة معاداة السامية وسندان دعم الإرهاب الذي تمثله حماس، هنا يمكننا القول إن هذه المطبات باتت أشبه بحصنٍ منيع يستلزم التخلص منه هدم نظام الدولة بالكامل وهو ما يبدو شبه مستحيلٍ في وقتنا الراهن، تحديداً أن الاحتجاجات لم تخرج بعد إلى الشارع، والأسوأ من ذلك أنها لا تبدو حتى الآن كشارع بمواجهة شارع.

ثالثاً: هذه الاحتجاجات الطلابية تترك لنا سؤالاً جوهرياً بمعاني حرية التعبير، لأننا كمجتمعاتٍ شرقية لا يمكن لنا النظر لاحتجاجات كهذه من الجانب الذي يعنينا فقط وتجاهل ما لا يتوافق مع قيودنا التي كبلنا فيها أنفسنا منذ عقود، لا يمكن التصفيق لمن يدعم قضايانا العادلة ثم نتوقف لأن مفهوم حرية التعبير لا يتجزأ، والجهة المقابلة له تحوي الكثير من التناقضات التي نبدو معها خاسرين للأسف، فعلى سبيل المثال ما ردات فعل من يحملون راية شيطنة الشعوب الغربية ويتهمونها بالشعوب الفارغة التي تربّت في كنف الليبرالية كأنها تهمة؟ ألم تقم هذه الشعوب بما عجزت عنه شعوب دولٍ تربّت تحت راياتٍ عفا عنها الزمن؟ ماذا عن أولئك الذين لا يميزون بين الشعوب والحكومات؟ ماذا عن أولئك الشامتين بضحايا عاصفةٍ هنا أو فيضانٍ هناك أليس من الممكن أن يكون بين الضحايا أبرياء كهؤلاء الطلبة؟ ألم تفرض هذه الاحتجاجات الطلابية احتراماً كبيراً لأنها أولاً وأخيراً فعلت ما عجزت عنه جامعات عربية على تماس مباشر بالقضية؟ كم عدد الجامعات العربية التي انتفضت للدفاع عن غزة؟

بالسياق ذاته، ماذا سيقول المواطن أو الطالب وحتى المثقف في هذا الشرق البائس عندما يرى أن هناك خلف البحار من انتفض ليدافع عن قضية لا ناقة له فيها ولا جمل، بينما يواجه هو اتهامات متنوعة ومن شتى الأصناف إن حاول المضي بالطريق ذاته وطرح تساؤلات لا تتماشى مع الرؤى الإستراتيجية أو الموروث الاجتماعي؟ ما مصير من يعيد ويكرر أن الحل الأول لبناء دول قوية هو فصل الدين عن الدولة؟ كم هو حجم التخوين الذي سيطول من يطالب بالتعاطي بطريقةٍ مختلفة مع الشعارات المستهلكة؟ هل عليّ كمواطن عربي أن أعيش وأموت فقط لإخراج الأميركي من المنطقة؟

إن الانتقائية في التعاطي مع الأفكار الديمقراطية، إن كانت حركات طلابية أم غير طلابية هي نوع من عقد النقص التي تجعل من يعاني منها عرضة للسخرية، فماذا ينتظرنا؟

إن ما يجري في الجامعات الأميركية لا يعدو كونه تحركات ارتجالية مصيرها سينتهي كما انتهت الكثير من الاحتجاجات التي طالبت بوقف الحرب على أفغانستان أو منع احتلال العراق، ولا يجوز بأي حالٍ من الأحوال مقاربتها بما جرى في فرنسا، قد تكون هذه الاحتجاجات حاجة أميركية تحاول استغلالها تماماً كما كانت أحداث السابع من تشرين الأول حاجة إسرائيلية ستستثمرها حتى آخر فلسطيني في غزة، أما من يبشرنا بوصول الفكر المقاوم قلب الولايات المتحدة فلا نقول له إلا: حسبنا اللـه ونعم الوكيل!

كاتب سوري مقيم في فرنسا

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن