الدراما والفن صناعة متكاملة، وهذه الصناعة ركائزها عديدة مثل أي صناعة، فإضافة إلى النص والفكر والإنتاج والتصوير هناك أمور تتعلق بالصلاحية وتاريخها، والأكثر أهمية الشريحة المستهدفة من أي عمل فني أو درامي، وربما، وهذا غائب بشكل كبير، أهم ما يمكن أن يحكم العمل الفني هو الحاجة المجتمعية، والدور الذي يمكن أن يؤديه الفن لخدمة المجتمع والارتقاء به، ولا يقصد هنا القضايا الفاضلة والوعظية وحسب، بل يقصد ما يحتاجه المجتمع، والمجتمع العربي اليوم، وبعد ربيع مشؤوم أجمع الجميع من معارضة وسلطات على أنه مشؤوم ومخطط له ضد مجتمعاتنا، لذلك يحتاج هذا المجتمع اليوم منا إلى وقفات لتقديم ما يحتاجه المجتمع من ترميم، وأن يكون المنطلق الأول لأعمالنا وكتاباتنا حاجات مجتمعاتنا الفكرية والاجتماعية والاقتصادية.. وهنا يصبح تناول المجتمع وتشريحه بشكل مباشر أمراً غير مقبول وحده، فهذا المجتمع اليوم يقع تحت ظروف وضغوط غير صحية، أولها الحرب ونتيجتها الفساد، وفرسانها الفاسدون.. ولا يجوز بحال من الأحوال أن أعرض وأقدم هذه الحالات كما هي دون معالجة الأسباب والواقع والنتائج، ولا يجوز أن أعزز في وجدان المتلقي طفلاً وشاباً وامرأة صورة طارئة كانت على هذا المجتمع، وستزول سريعاً، وإن كانت الحلول السياسية مستعصية وخاضعة لتجاذبات كثيرة، فإن الحلول الاجتماعية في المتناول، ولن يحتمل المجتمع، ولن يقبل أن تستمر، ومن هنا لا يجوز للأدب والإعلام والفن أن يقرر أمراً واقعاً على أنه أرضية سيتم الانطلاق منها.
أهم جناحين للفن العربي مصر وسورية، هذان الجناحان هما الحاملان للصناعة الفنية والدرامية، ولا مجال لأي منافس أن يدخل ويتقدم عليهما، ومصر هي الأقدم منذ احتوائها لأبي خليل القباني ومارون نقاش وجورج أبيض وفريد الأطرش وأسمهان، وظروف كثيرة أخّرت اكتمال الجناح الثاني السوري، لكن حين اكتمل حلّق عالياً، وصار منافساً ودافعاً، ولا ينسى المتابع الدقيق أن تميز الرؤى الفنية في الفن السوري دفع المبدعين المصريين وأصحاب القرار إلى مراجعات طويلة أثمرت، وعلى التوازي عن استقدام الخبرات السورية إلى الدراما المصرية ومراقبة التجربة والآليات، إنشاء محطات خاصة ومدعومة، مركزية ومحلية تتجاوز العشرات، الإعداد لورش فنية وإعداد جيل من الشباب، ومن ثم انطلقت الدراما المصرية بشكل يثير الإعجاب، ومن خلال موضوعات يحتاجها المجتمع المصري بشكل مباشر، ويحتاجها المجتمع العربي بصورة تالية، ومن منا ينسى رائعة «الجماعة» التي قام عليها مؤرخون ومتخصصون شرّحوا الظواهر، ولم يلامسوها ملامسة رقيقة، ما أدى إلى قناعة مجتمعية تامة تجاه الأيديولوجية الدينية، فلم يتم العمل على قراءة ظواهر فردية في التطرف، وإنما تم العمل بإتقان على تشريح الفكر، وقوبل العمل بالاستحسان عربياً، وفي الوقت نفسه كان مشروعاً تجارياً رابحاً ومشروعاً ربحياً أكثر فائدة.
الفن المصري اليوم يحتاج التسويق العربي والتمويل العربي والعروض العربية، لكنه بالخطة المتكاملة، ومن خلال رؤوس الأموال المصرية، والقنوات العارضة الحصرية وغير الحصرية في الشاشات المصرية الداخلية الخاصة والعامة بإمكان العمل أن يكون رابحاً، وأن ينطلق من أرضية تعني المجتمع، ولا تلتفت إلى ما يريده المنتج وحسب.
لفت انتباهي إلى ذلك ودفعني لمناقشته ما قاله الأستاذ عمرو الليثي، ابن الأستاذ الخبير والسيناريست الراحل ممدوح الليثي، وهو يناقش أحد هذه الأعمال، وهو يقول: حكاية اجتماعية تعني المجتمع، ولا يوجد فيها أي لفظ جارح، أو أي كلمة خارجة عن المألوف، وهو ما أطلق عليه اسم (الأفيهات) التي يفاخر الكثيرون بوجودها وتردادها.. يقول الليثي عن ذلك العمل بأنه الأكثر إعلانات، والأكثر مشاهدة، وأشياء أخرى.
اليوم تشهد الدراما السورية عودة إلى مكانتها المحلية والعربية، فهل نعمل على مراجعة؟ وهل نجد أعمالاً سورية بامتياز فكراً وحاجة وغاية وتمويلاً؟ بعد سنوات عجاف على كل شيء والدراما ضمناً، هل يمكن أن نقدرها كصناعة، ونقدر جهود صناعها دون الحاجة الماسة لممول يوجهها؟
قد نفلح بأن نجعلها منا ولنا، وأكثر شبهاً بمجتمعنا، ونقطة للانطلاق اجتماعياً واقتصادياً.. ربما.