ورد لروحه في «الباب الصغير» في يوم رحيله … نزار قباني مملكة شعرية وجدانية ووطنية ستبقى معرّشة في الوجدان الجمعي
| إسماعيل مروة
في مثل هذا اليوم من عام 1998 رحل عن دنيانا الشاعر المتفرد، وصاحب الصوت الأقوى، ورجل القصيدة العربية الحديثة بلا منازع نزار قباني، وكلما رحل واحد من الأدباء ينعاه الناعون، وتطوى صفحته طويلاً، وقد لا يعود إلى الذاكرة إلا لماماً، ولكن نزار قباني كان مختلفاً، ففي حياته قال: (جعلت الشعر رغيف خبر ساخناً للناس) ويبدو أنه كان على حق، فأين للناس أن يتوقفوا عن الحاجة للخبز؟ نزار قباني كتب كما يتنفس، بل أكثر من ذلك، كتب كما يتنفس الناس، لذلك التحم مع مشاعرهم وحناجرهم، وهذا ما يسوّغ ما قاله الشاعر أدونيس لـ«الوطن» في حديث طويل: نزار قباني هو الشاعر الوحيد الذي يعيش زمناً طويلاً بين شعراء العصر الحديث.
الموقف والشخص
لسنا في إطار وضع سيرة ذاتية لنزار، ولا أن نجمع عبارات من هنا وهناك عن مولده وحياته، ولسنا بوارد اختلاق بعض القصص التي لا علاقة لها بالواقع ونحن نظن أنها ترفع من شأن نزار من ناحية، أو تحط من قدره من ناحية أخرى، ففي المجالس ووسائل التواصل، يتم الحديث عن نزار، وكأنه شاعر شتّام، ويقررون أن القائل نزار، ويردون عليه، ويصفونه شتى الأوصاف إيجاباً وسلباً، وما من واحد منهم يضع هذا الذي يقال في إطار موازنة حياتية أو نصية، وعلى الرغم من النفور من التصنيفات، إلا أن شاعرنا ابن بيئة محافظة راقية، وهذا يدفعنا إلى رفض قبول أي شعر ينسب إليه وهو خارج عن حدود اللباقة والمستوى الاجتماعي، ومن الناحية النصية، فإن ديوانه الكبير شعراً ونثراً، ونثره شعر يخلو من أي لفظة مجافية للذوق العام ومحددات المجتمع، وما من قصيدة يستحي واحدنا أن يقرأها على أسرته الصغيرة، وأكثر الألفاظ جرأة عند نزار (الساق، الشفة، النهد)!
وفي السياسة لم يكن نزار قباني منخرطاً تحت أي عباءة، ولم يكن خصماً بمعنى الخصومة لأي توجه أو قيادة، وكل ما كان من نزار قباني كان نابعاً من فهمه العميق والحقيقي للشعر ودوره، فقد كان ناقداً، وناقداً قاسياً في الكثير من شعره، وربما قال هذا الشعر دون أن يكون محدداً مثل (الديك- السيرة الذاتية لسياف عربي- استجواب- لا) ولكن القرّاء والنقاد بميولهم وأهوائهم يمكن أن يلبسوا هذه القصيدة لهذا الجانب أو ذاك، دون أن يكون الأمر وارداً في ذهن الشاعر حين نظم قصيدته، ولنا عندما نتصفح وسائل التواصل أن نتعجب، ونحن نقرأ أو نسمع بأن هذه القصيدة قيلت في كذا أو كذا، في فلان أو فلان!
نزار شاعر الموقف، وليس شاعر الشخصنة، والردّ البسيط على كل هؤلاء بأن ما يصوغونه من أخبار يسقط في استعراض أنشطة الشاعر، فهذه الأشعار ألقاها في لندن وباريس ودمشق وبيروت والقاهرة وبغداد وأبو ظبي، فكيف يمكن لنا أن نتقبل إلقاء هذه القصائد في كل مكان وهي مشخصنة؟! وتستثنى من ذلك أشعاره التي قالها اعتراضاً على اتفاقيات كامب ديفيد (اليوميات السرية لبهية المصرية) فهي لم تنطلق في أمسيات القاهرة، لكن ذلك لم يحل بين نزار وجمهوره وأصدقائه في مصر العربية، ولم يحل دون أن يزور القاهرة ويلقي شعره، ويلقى أحبابه.
فنزار في شخصه مترفع عن الشتم والصغائر، وفي نقده هو ناقد عام لكل استبداد وظلم وفساد قد يكون في كل مكان من هذا العالم العربي الذي يتوجه إليه بالنقد، راجياً له الصحو، وفي وقت مبكر.
نزار ودعوة الصحو
يحلو لكثيرين وصف نزار قباني بأنه شاعر المرأة الذي سلّعها ووصف مفاتنها، وخرج عن القانون، ولعل المحاولة الدرامية الوحيدة التي أنجزت عن نزار على الرغم من الإمكانات التي وضعت تحت تصرف العاملين مادياً وفنياً، إلا أن النص الذي كتبه كاتب راحل كان دون مستوى نزار، وربما كانت هناك دوافع جعلت من نزار مراهقاً طوال عمره، والأمر ليس كذلك، فنزار ابتداء من أخته وحبها وموتها أراد للمرأة أن تكون شيئاً مختلفاً، والغاية كانت أن ينهض المجتمع كله، فمن غير نهضة المرأة وحريتها واستقلاليتها الشخصية والاقتصادية لا يكون المجتمع حراً، وفي البدايات تعرض نزار لظلم كبير من المؤسسات الدينية، ومن الأطراف العلمانية والماركسية أيضاً، لأن دعوته لم تكن مجيّرة لمصلحة أي جهة، بل لمصلحة المجتمع.. وها هو جبرا إبراهيم جبرا الكاتب والناقد الفلسطيني المغرق في اليسارية ينتقد الشاعر انتقاداً قاسياً، ثم لا يلبث أن يعود ويعتذر ويقول كلاماً منصفاً لنزار، وبأنه ظلمه لأنه لم يكن يدرك أبعاد دعوة نزار التحررية! «لم يكن من السهل أن يتجاهل المرء ثورة لم تكن في بال صاحبها في أول الأمر، هذه الثورة التي جعل الشاعر، دفاعاً عن نفسه في زمان كثر فيه أدعياء الثورة، يؤكد عليها الآن علانية بنفسه، حين أدرك حقيقة ما ذهب إليه شعره طوال السنين وهو لا يدري، ككل شاعر حق.. ليس هناك من شاعر عربي أو غير عربي، يقرأ على النطاق الذي يقرأ عليه نزار، لقد جعل الشعر يملأ الهواء من كل مدينة أو قرية عربية، فراح يدخل بيوت الناس من أبوابها ونوافذها كالشمس».
وكذلك الأمر كان مع المؤسسة الدينية، المتحالفة أساساً مع المؤسسة السياسية على الدوام، وكان من اجتماع مصلحة المؤسستين أو تواجها نزاراً أو تشيطيناه، لكن الشاعر وقد حمل المجتمع في نفسه وروحه، وكان مكتفياً، ولم يكن بحاجة لممول، ولم يعتن بأن يطبع واحد له شعره ويتحكم به انطلق في آفاقه الشعرية المجتمعية والعاطفية والسياسية، وهو الذي يعيد الفضل في شاعريته إلى استقلاله المادي، فعند ما شتمه بعضهم لبورجوازيته! قال: ومن قال إنه يجب على الشاعر أن يكون فقيراً ليقف على أبواب السلاطين؟
هذا الواقع جعل الشاعر صاحب موقف ورأي، لا يخضع لما يأتيه من هنا وهناك، وإن تلقى شيئاً، فإنما مقابل نشاطه وكتبه وتاريخه، وليس ليكون شاعراً للسلاطين.
ومن ذكاء نزار المفرط، ومن أثر الدبلوماسية أنه لم يتوجه إلى بلد معين، ولا إلى حاكم محدد، ولا إلى بيئة محددة في نقده المجتمعي، بل كان عاماً، وحين يزور أي بلد يبحث عن نقاط الضوء والحضارة ليتحدث عنها حديثاً وكأنه ابنها، ويبقى عشقه الأبدي شامياً:
وددت لو زرعوني في مئذنة
أو علقوني على الأبواب قنديلا
يا شام إن كنت أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب بعد ما قيلا
هذا كله جعل نزار قباني مستمراً في دعوته لتحرير المرأة والمجتمع، ومهاجمة الفساد والانهزام والهرولة والصلح المنفرد مع الأعداء حتى أيامه الأخيرة.
المرأة تتجمل لنفسها
نزار قال بنفسه في حواراته، ونصه الشعري يفصح عنه، فهو لم يقل شعر الغزل بمفهومه النقدي، ذلك الشعر الذي يقف أمام المحبوب بحالة وصفية بحتة، والتي أدعوها بالحالة الصنمية في رسم معالم المرأة ومحاسنها ومفاتنها، بل كان نزار يبحث عن الجمال والصورة، وهذا ما جعله شاعراً مصوراً مجنحاً، فهو أحد أمرين:
واصف للجمال، داعٍ للجمال.
ففي وصفه لأنه رأى صورة جميلة مبهرة يقف أمامها ليتحدث عن محاسنها حديثاً معجباً، لأنه يريد أن ينقل هذه الصورة الجمالية للناس لما فيها من متعة، وينقلها للمرأة بشكل خاص لتكون مثالاً يمكن أن تحتذيه المرأة في تجميل نفسها.
وهذا هو الجانب الأكثر شيوعاً في شعر نزار، إذ حمل نزار قباني على عاتقه بيان جمال المرأة وكيف يكون، ففي حديثه للمرايا والمانيكور وأحمر الشفاه ومذعورة الفستان، وكل ما كان، بحث نزار عما يجعل المرأة جميلة في نظر نفسها بالدرجة الأولى، ولم يجعلها تتجمل للغواية، والجانب الآخر من جمال المرأة كما رآه نزار هو الجانب الفكري ما يعزز القناعة بدوره الاجتماعي الإصلاحي، لذلك نجد الشاعر في آخر أحاديثه وكتاباته يتحدث بألم، وبأنه لا ينظر إلى المرأة الخالية من الفكر مهما كانت جميلة، وبأن المرأة فهمت دعوته للحرية والوعي كما تريد، فيقول: حملت المرأة على ظهري خمسين عاماً أدافع عن حريتها وفي أول فرصة تركتني وحدي وذهبت إلى الكوافير!!
ألا يمثل هذا كشفاً، لمن أراد أن يقرأ، عن حقيقة دعوة نزار، وبأنها دعوة لحرية المجتمع وصعوده الفكري بجناحيه الرجل والمرأة؟ ولو كان كما ادعى منتقدوه من المتدينين والعلمانيين يريد أن يجعل المرأة سلعة، أما كان بإمكانه أن يقضي حياته متعة بعد أن رآها تهجر الفكر وتتوجه إلى الكوافير؟
ألا تعني صدمة نزار بتخلي المرأة عن دورها المجتمعي الفكري وانحيازها للمظهر الخارجي شيئاً للقارئ والناقد؟ دعوة نزار للمرأة والعناية بنفسها دعوة عظيمة، فكما يدعو المجتمع والشرائع الرجل إلى الظهور بمظهر لائق وحسن، كذلك يدعو نزار المرأة لأن تغدو جميلة أمام نفسها..
إن ضحكت محبوبته يصف ضحكتها، وها هو يردد صداها وأثرها في نفسه ليدفعها إلى أن تكون مصدر بهجة وبهجة لنفسها:
وصاحبتي إذا ضحكت يسيل الليل موسيقا
تطوقني بساقية من النهوند تطويقا
فأشرب من قرار الرصد إبريقاً فإبريقا
وتشبعها قبيل البث ترخيماً وترقيقا
أيا ذات الفم الذهبي رشّي الليل موسيقا
وها هو يظهر لها أثر لباسها وزينتها:
ألوان أثوابها تجري بتفكيري
جري البيادر في ذهن العصافير
ألا سقى الله أياماً بحجرتها
كأنهن أساطير الأساطير
أين الزمان؟ وقد غصت خزانتها
بكل مستهتر الألوان معطور
وفي وصفه للمانيكور يصف أدق التفاصيل وأزعم أن كثيرات يمكن أن يتعلمن منه في هذه القصيدة الوصفية:
قامت إلى قارورة محمومة الرحيق
طلاؤها الوردي وهج الكرز الفتيق
واستلت المبر من غمد له رقيق
ينحت عاج ظفرها المدلل النميق
وغرد المقص فوق المرمر الغريق
يحصد في نقلته نحاتة البريق
عشر شموع أوقدت في معبد عتيق
وفي العطر والطيب يقول في كريستيان ديور:
شذاي الفرنسي هل أثملك؟
حبيبي فإني تطيبت لك
لأصغرُ أصغرُ نقطة عطر
ذراعُ تمدُّ لتستقبلك
تناديك في الركن قارورة
ويسألني الطيب أن أسألك
لدي مفاجأة فالتفت لي
ومرّر على عنقي أنملك
وقل لي بأنك لا.. لا تقل لي
وأبحر بشعري الذي ظللك
أأبخل بالطيب؟ لا كان جيدي
إذا لم يكن مرة مشتلك
يميناً.. أنا يوم تأتي إليّ
سأبني على فلّة منزلك
ويقول لها في كتاب الحب:
الحب يا حبيبتي
قصيدة جميلة مكتوبة على القمر
الحب مرسوم على جميع أوراق الشجر
الحب منقوش على
ريش العصافير وحبات المطر
لكن أي امرأة في بلدي
إذا أحبت رجلاً
ترمى بخمسين حجر
ويقول لها:
مازلت تسألني عن عيد ميلادي
سجل لديك إذن ما أنت تجهله
تاريخ حبك لي تاريخ ميلادي
مصور بارع لا يجارى
يقول نزار عن نفسه وببساطة «كنت شاباً أحمل الكاميرا، وتطلب مني الصور، والمرأة أجمل شيء أصوره» هذا التعبير على بساطته يعطي حكماً نقدياً مهماً في تحديد معايير الشعر ومراميه، وإن كان الآخرون لا يعترفون، فنزار قد اعترف، فهو مصور بارع، وهذا يسوقنا، وليس دفاعاً عن نزار قباني، لأنه لا يحتاج، وهو الذي وضع ذاته على الورق، ولم يترك مزيداً يقوله من يأتي بعده، يسوقنا إلى أشياء مهمة في جانب الشعر الوجداني والمرأة:
ليس شعر نزار قائماً على التجربة والعشق كما يتحدثون.
نزار مصور يلتقط الصورة المجتمعية السلبية والإيجابية.
دافع نزار عن المرأة حين كانت ضحية ومظلومة كما قرأنا وسنختار.
هاجم نزار المرأة عندما كانت منحرفة، وتناولها في ذاتها وأمومتها.
ربط نزار كل أمر أخلاقي بالمجتمع وموروثاته والعادات والتقاليد.
حدد المسؤولية الأخلاقية وبيّن مصدرها ونتائجها.
ربط بين القهر المجتمعي والقهر السياسي.
فصّل في النظام القبلي والأبوي ومخاطر استمراريته على المجتمع وتطوره.
عندما قلت لك:
أحبك
كنت أعرف
إنني أقود انقلاباً على شريعة القبيلة
وأقرع أجراس الفضيحة
كنت أريد أن أستلم السلطة
لأجعل غابات العالم أكثر ورقاً
وبحار العالم أكثر زرقة
وأطفال العالم أكثر براءة
كنت أريد
أن أنهي عصر البربرية
وأقتل آخر الخلفاء
وفي أول دواوينه «قالت لي السمراء» ينتفض في وجه القبيلة:
يا قضاتي يا رماتي إنكم
إنكم أجبن من أن تعدلوا
لن تخيفوني ففي شرعتكم
يُنصر الباغي ويرمى الأعزل
تسأل الأنثى إذا تزني وكم
مجرم دامي الزنا لا يسأل
وسرير واحد ضمهما
تسقط البنت ويحمى الرجل
ويهاجم المذنبة:
ويحك في إصبعك المخملي
حملت جثمان الهوى الأول
تهنئتي يا من طعنت الهوى
في الخلف في جانبه الأعزل
سبية الدينار سيري إلى
شاريك بالنقود والمخمل
لم أتصور أن يكون على
اليد التي عبدتها مقتلي
وحين كانت المرأة مظلومة دافع عنها بكل ما أوتي من حجة، وكل ما ملك من عاطفة تجاه أخته وأمه وكل امرأة:
ماذا؟
أتبصقني؟
والقيء في حلقي يدمرني
وأصابع الغثيان تخنقني
ووريثك المشؤوم في بدني
والعار يسحقني
وحقيقة سوداء تملؤني
هي أنني حبلى
ليراتك الخمسون تضحكني
لمن النقود لمن
لتجهضني؟
لتخيط لي كفني؟
هذا إذن ثمني؟
ثمن الوفا يا بؤرة العفن
أنا لم أجئك لمالك النتن
شكراً
سأسقط ذلك الحملا
أنا لا أريد له أباً نذلا
فهل هناك أهم من هذه الكاميرا التي ترصد وتفضح ولا تترك شيئاً دون أن تواجهه.
الشام عشق الدم
كثيرون الذين يتحدثون عن بلدانهم ومدنهم، ومن الطبيعي والواجب أن يتحدث هذا الشاعر أو ذاك عن مدينته، ودمشق الشام حظيت بالكثير من الشعر سواء من الشعراء العرب كشوقي والأخطل وحافظ إبراهيم وسعيد عقل، وغيرهم كثير، ومن الشعراء السوريين كشفيق جبري ومحمد البزم، وأنور العطار وخير الدين زركلي وغيرهم كثير أيضاً، لكن نزار قباني أخذ مكانة أخرى تختلف عن غيره من الشعراء العرب والسوريين، وتميز نزار كان من ذاته ومن رؤيته لمدينته دمشق، ولو عدنا إلى الشعر العربي والسوري في الشام، فإننا نجد الشعر الجميل والمعبر، لكنه الشعر الذي يمشي على منوال حياة الشعر المعروف، نزار قباني بتركيبته ورؤيته استطاع أن يخرج الشام عن صورتها التقليدية، وخرج هو عن صورة الشاعر المترف الذي يقابل مدينته بكثير من الترقب والمراقبة.
نزار الذي لم يكتب شعراً في الغزل الصنمي، مارس ذلك مع دمشق والشام، نزار رأى دمشق معشوقة تتنفس وتتحرك وتعيش، مارس عملية صعبة لا يقدر عليها غير الفحول من الأدباء، مارس عملية الأنسنة على معشوقته دمشق، وجعلها تبادله العشق، وجعل نفسه عابداً وعاشقاً ومولهاً لهذه المعشوقة، لذلك تميز عن غيره من الشعراء الآخرين، فأعطى صورة لم يسبق إليها، وقدم عالماً استغربه الناس، ما لبث القارئ أن تعلّق بما رسمه نزار، وحاول كثيرون السير على نهجه دون بلوغ مبلغ نزار.
نثرت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
وبعد حرب تشرين يخاطب دمشق باسمها ميسون كأي امرأة معشوقة..
أتراها تحبني ميسون؟
أم توهمت والنساء ظنون؟
كم رسول ارسلته لأبيها
ذبحته تحت النقاب العيون
يا ابنة العم والهوى أموي
كيف أخفي الهوى وكيف أبين؟
كم قتلنا في عشقنا وبعثنا
بعد موت وما علينا يمين
ها هي الشام بعد فرقة دهر
أنهر سبعة وحور عين
النوافير في البيوت كلام
والعناقيد سكر مطحون
هل دمشق كما يقولون كانت
حين في الليل فكّر الياسمين؟
آه يا شام كيف أشرح ما بي
وأنا فيك دائماً مسكون
يا دمشق التي تقمصت فيها
هل أنا السرو أم أنا الشربين
يا دمشق التي تفشى شذاها
تحت جلدي كأنه الزيزفون
أهي مجنونة بشوقي إليها
هذه الشام أم أنا المجنون؟
حامل حبها ثلاثين قرناً
فوق ظهري وما هناك معين
علمينا فقه العروبة يا شام
فأنت البيان والتبيين
شام يا شام غيّري قدر الشمس
وقولي للدهر كن فيكون
وفي قصيدة أخرى يقول لها:
قمر دمشقي يسافر في دمي
وبلابل وسنابل وقباب
الفل يبدأ من دمشق بياضه
وبعطرها تتطيب الأطياب
والشعر عصفور يمد جناحه
فوق الشام وشاعر جوّاب
والحب يبدأ من دمشق فأهلنا
عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا
ودمشق تعطي للعروبة شكلها
وبأرضها، تتشكل الأحقاب
الفرق واضح بين شعر نزار بدمشق وشعر غيره، فهو لم ينسَ الماضي والمجد والعروبة والتاريخ، لكنه تناوله كما يفعل مع محبوبته، فحوّل الشام إلى امرأة يتعشقها، يتوسل إليها، يحاول أن يصل إلى مواطن جمالها وفتنتها، ويستثير في طريقه إلى ذلك ما كمن من التاريخ والأصالة، وهذا ما جعل شعره الوطني والقومي مختلفاً عن سائر الشعراء الذين تناولوا الشام، ولو عدنا إلى كل شعره في دمشق، وما تمّ اختياره لضيق المكان، فنحن أمام دم لا يتوقف عن عشق محبوبته.
عقود مرت على رحيل نزار وسكناه الباب الصغير إلى جوار ولده توفيق قباني الذي مات عام 1973، وهناك يهمس كل منهما للآخر القصيدة نفسها:
أشيلك يا ولدي على ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين
فأذكر حين أراك علياً
وتذكر حين تراني الحسين
ستة وعشرون عاماً على غياب فارس الشعر، ولكنه لا يزال محلقاً في عوالم مطلقة صنعها بنفسه لنفسه، أفسح المجال منها للآخرين لكنها كانت حكراً عليه، وعلى عبقريته وطبيعته.
مما قالوا في نزار وتجربته
هدباء قباني: «لو لم يكن نزار قباني أبي، لكنت اخترعته، فهو نموذج إغريقي من النماذج التي لا يمكن نحتها مرة أخرى».
د. سعاد الصباح: «لم يترك بيتاً لم يدخله، لم يترك طفلاً لم يلعب معه، لم يترك حديقة لم يجلس تحت أشجارها، ولم يترك عاشقاً إلا احتضنه، ولا عاشقة إلا أهداها ديواناً من شعره، وعلمها كيف تكون الأنوثة».
د. صباح قباني : «نزداد اعتزازاً عندما نرى أن أسرة نزار لم تعد تنحصر في تلك التي عايشته في الحي الدمشقي القديم».
جبرا إبراهيم جبرا: «الحب لدى نزار يبقى دائماً محلقاً في عوالم مطلقة».
سلمى الخضراء الجيوسي: «إنجازات نزار اللغوية من أهم إنجازاته الفنية، وهذه ميزة الشاعر الأصيل».
د. محيي الدين صبحي: «أزعم أن جميع نساء نزار قباني في قصائده مخلوقات أبدعتها مخيلته».
د. صلاح فضل: «انهمرت قصائد نزار قباني في حركة كاسحة فيما يمكن أن نسميه جلد جلد الذات».
د. عبد القادر القط: «أقبل القراء على هذا الإبداع الجديد! إقبالاً جماهيرياً غير معهود».
د. خريستو نجم: «شاعرنا محكوم بأن يظل بلا أقدام ولا تأشيرة سفر».
د. فكتور سحاب: «اختار نزار قباني الصيغة السليمة للتجديد في الشعر العربي».
فاروق جويدة: «نزار قباني إنساني بركاني السمات اختار دائماً أن يقلب موازين الأشياء».
د. منير العجلاني: «ما كتب شعرك ليقرأ، ولكنه كتب ليغنى ويشمّ ويضمّ».
د. عبد السلام العجيلي: «بلغ الشاطئ بموهبته وبإبداعه، فظفر بالشهرة والكفاية دون أن يطلبهما».
د. شاكر مصطفى: «نزار قباني لم يأخذ من تجاربه الشخصية على غناها إلا القليل.. كنزه المتوهج بألف كهف من كهوف علي بابا الزمردية إنما كان من إبداعه الذاتي».
د. عبد الرحمن منيف: «كان عموداً من الضياء، نغماً يتسلل إلى الأعماق».