قضايا وآراء

ولايات «الموز» المتحدة الأميركية

| علي عدنان إبراهيم

كثيراً ما يصف الرؤساء الأميركيون أي دولة نامية أو أي دولة يقودها نظام لا يروق لهم بـ«جمهورية الموز»، وهنا لا يقصدون سوى الإهانة على اعتبار أن هذا المصطلح يدل على دولة فاشلة فاسدة لا مكان فيها للحرية والديمقراطية والتعبير عن الرأي إضافة لفشلها في المجال الاقتصادي وتعاسة مواطنيها.

دول كثيرة في آسيا وإفريقيا وأميركا الوسطى واللاتينية نُعتت بهذا النعت الغريب، والذي ظهر للمرة الأولى مطلع القرن الماضي في مؤلفات الكاتب الأميركي أوليفر هنري، ليستخدمه الرؤساء الأميركيون بكثرة فيما بعد، إلا أن غزة عرّت النظام الأميركي وجعلت منه «جمهورية موز» هو الآخر، وهنا لا يمكن قطعاً التقليل من حجم الولايات المتحدة كدولة عظمى عسكرياً واقتصادياً وعلمياً، لكن عندما تكون حرية التعبير إحدى أهم المبادئ التي ترفعها هذه الدولة على مستوى العالم وتدافع عنها وتغزو لأجلها دولاً في الشرق وتنشر جيوشها للحفاظ عليها وما أن يتم تطبيقها بشكل حقيقي على أراضيها حتى تنقلب ضدها بكل عنف وقوة، هنا يمكن وصفها بـ«جمهورية موز» من دون تردد، والحديث هنا عن ثورة الجامعات الأميركية التي انطلقت من جامعة كولومبيا في الثامن عشر من شهر نيسان وتمددت لتشمل عشرات الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث الأخرى في معظم الولايات الأميركية، مطالبة بوقف الاستثمار في إسرائيل وتعليق التعاون معها حتى إنهاء الحرب على غزة، الأمر الذي أثار غضب رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو ووزرائه وحتى معارضيه الذين وصفوا التحركات الطلابية العفوية بـ«معاداة للسامية» على الرغم من انخراط طلاب يهود فيها، وطالبوا الإدارة الأميركية بقمعها بالقوة، وهو ما حدث فعلاً، حيث انتشرت صور الاعتقالات والضرب والسحل التي مارستها شرطة الولايات المتحدة الأمريكية بحق الطلاب وأعضاء الهيئات التدريسية المنضمين للتظاهرات لكن بحجة تعديهم على الحرم الجامعي نظراً لضعف الذريعة الحقيقية وهي حقهم الطبيعي في التظاهر السلمي ضد الجرائم الإسرائيلية، غير أن التعامل الهمجي مع الطلاب في جامعة كولومبيا واعتقال 100 منهم أتى بنتائج عكسية وفتح الباب واسعاً لانضمام عشرات الجامعات في جميع أنحاء البلاد حتى بلغت 80 جامعة ومازال العدد في ازدياد.

نتنياهو الذي يعتبر الولايات المتحدة عمقاً استراتيجياً لإسرائيل ووجودها في مجلس الأمن الدولي غطاء لممارسة كل الجرائم، فوجئ بهذا الانقلاب غير المحسوب في الشارع الأميركي، وخاصة أن انطلاق هذه الآراء من الجامعات بشكل موحد قد يتسبب بتشكيل قوة ضغط على الإدارة الأميركية، فسارع للقول: إن «العصابات استولت على كبرى الجامعات» وإن ما يحدث «مروع ومعاداة للسامية»، ليتبعه على الفور رئيس مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، والذي لم يمضِ سوى أيام قليلة على موافقته لإرسال مساعدات بقيمة 26 مليار دولار أميركي لحكومة نتنياهو للاستمرار بقتل الفلسطينيين، حيث اتهم الطلاب المحتجين بأنهم متطرفون ومحرضون وخارجون عن القانون، وقال أيضاً في خطاب له بجامعة كولومبيا: «إن سلوك هؤلاء الطلاب تسبب بانتشار فيروس معاداة السامية إلى جامعات أخرى»، الأمر الذي يوضح حجم السيطرة الإسرائيلية على قرارات وألسنة المسؤولين الأميركيين، حتى إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي لم يجرؤ على رفض الاحتجاجات المحقة علناً، انتقد عدم تطرق المحتجين لما فعلته المقاومة في يوم السابع من تشرين الأول الماضي، وتركيزهم فقط على ما يفعله الإسرائيليون خلال 7 أشهر!

ومن الطبيعي أن لا تلاقي هذه الاحتجاجات الطلابية الصادقة دعماً رسمياً أميركياً من أي من الحزبين الكبيرين، فاستراتيجية هذين الحزبين اللذين يتداولان السلطة في الولايات المتحدة مستقاة، كما هو معلوم لكل الناس، من شركات السلاح والنفط التي تقرر مصالحها وعلى ضوء هذه المصالح المتداخلة بقوة مع المال الصهيوني تأتي التصريحات والمواقف الرسمية، إلا أن بعض الأحرار في تلك الرقعة الجغرافية من العالم لا يخضعون لكل هذه الحسابات ويقولون كلمة الحق كالسيناتور المستقل في الكونغرس الأميركي والمنحدر من أصول يهودية، بيرني ساندرز الذي رد على نتنياهو بالقول: إن «الأغلبية العظمى من الشعب الأميركي تشعر بالاشمئزاز من آلة حرب نتنياهو في غزة»، وأضاف: «عندما توجه هذه الاتهامات لإسرائيل، فهذا ليس معاداة للسامية، بل هو واقع».

لا يمكن معرفة المدى الذي قد يصله صدى هذه الاحتجاجات الأولى من نوعها ضد إسرائيل في الولايات المتحدة، ولا الفترة التي قد يستمر فيها توهجها أو حتى حجم انتشارها، ولكن المؤكد أنها تسببت حتى الآن بانهيار الصورة التي أرادت أميركا رسمها في عقول البشر طوال عقود على أنها أرض الحريات، ويتجلى ذلك في الصورة التي انتشرت بقوة للفتاة المعتقلة في جامعة تكساس، حيث أعيد رسمها وتاج تمثال الحرية الشهير يعلو رأسها فيما يكبل عناصر الشرطة يديها ويدفعونها إلى داخل السيارة، ليكون التعليق الأول عليها من الجميع «الديمقراطية المزعومة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن