سليمان حداد يسير على دروب معبّدة بالآلام…سلسلة من الذكريات والوقائع التي تذكر للمرة الأولى
محمود الصالح:
بين قلبي الذي يحط على الثمانين وشهقتي الأولى في ذلك البيت الطيني، مسافة للذكرى، ومدى يتجدد فيه الحنين لطفولة تركت فيها الطبيعة ظلالا، كلما خطت الأيام بي تزداد اتساعاً وحضوراً، وكنت كلما التقطت القلم محاولا استحضارها على الورق، تأسرني النجوى وأبقى عاجزاً حيث تخطفني الذكرى إلى حضن أمي وهي تدير رحى همومها وأحزانها وقهرها، لتغمرني بدفئها في تلك الشتاءات القاسية.
بهذه الكلمات يخط المناضل العربي السوري الضابط والسياسي وأحد أعمدة ثورة الثامن من آذار والدبلوماسي العريق سليمان حداد سفر ذكرياته التي توثق لمرحلة على غاية من الدقة والأهمية من تاريخ سورية ويسير بالقارئ على «دروب معبدة بالآلام» ابتداء من شهقته الأولى في بيته الطيني في «حمام القراحلة» حيث الطبيعة الساحرة والسنديان الذي تعلم منه الكاتب دروس الصمود والصلابة والقوة التي كانت معينه الذي لم ينضب خلال مسيرة حياته الحافلة بالأحداث الجسام التي شكلت بمجملها المشهد السياسي والوطني في سورية. خلال حفل توقيع كتاب الدبلوماسي العريق سليمان حداد في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة الذي حمل عنوان «دروب معبدة بالآلام –الجزء الاول» تحدث إلى الحضور قائلا: هذا الكتاب يشكل توثيقا لمرحلة مهمة ليس من حياة الكاتب بل من تاريخ سورية في منطقة جبال الساحل السوري عندما جاء تلامذة المعلم زكي الارسوزي إلى حمام القراحلة للتبشير بالأفكار القومية المتمثلة بمبادئ حزب البعث. وخلال سرده لموجز الأحداث التي جرت في ذلك الزمان كنت أشعر بحميمية تلك العلاقة بين الكاتب ورجالات تلك المرحلة وخصوصاً عندما أخبرنا أنه هو من أذاع البيان الأول لثورة الثامن من آذار حيث يزهو بعنفوان يعيدنا إلى لحظة إذاعته للبيان الأول.
وبالرغم من زحمة الحضور لهذا الحفل كان لوجود الدكتورة ملك أبيض زوجة الشاعر العروبي سليمان العيسى وقعا متميزا لأنها شاهد حي على تلك المرحلة التي يتحدث عنها الكاتب ابتداء بطفولته التي يرويها لنا بطريقة رائعة جداً حيث ينقلنا إلى بيت العائلة وشوارع القرية وحياة الشظف التي كان يعيشها أبناء المنطقة كطبقة فلاحية فقيرة لا تمتلك أدنى مقومات الحياة لكنهم كانوا أغنياء بعزة أنفسهم وشممهم الذي استمدوه من جبالها الشامخة ويضيء لنا على شخصية والده ودوره في تعليم أطفال القرية القراءة والحساب، ثم ينقلنا الكاتب في أسلوب روائي مميز إلى مدرسته وقصص أخرى استطاعت أن تخدم غايته في سرد الذكريات وتم توظيفها بشكل مناسب مع سيرة حياته ويتوقف عند كل محطة من المحطات البارزة بالتوثيق من خلال ذكره للأسماء والوقائع ابتداء من انتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي عام 1951، وفترة وجوده في دير الزور مع أخيه الأكبر وقبوله في الثانوية الصناعية في حلب الذي كان بمثابة معجزة له، ويعود بنا إلى تلك الأيام حيث كانت التظاهرات وندخل معه إليها ونشارك المتظاهرين الهتافات والحماس الوطني الكبير، وانتسابه للكلية الجوية في حلب وسط خوفه من عدم القبول –لأن القبول كان لأصحاب الوساطة – وتعرفه على الملازم الأول حافظ الأسد، ويصافح السماء في طلعته الأولى، ويتذكر حياته العسكرية في جميع مراحلها الحافلة بالذكريات والوقائع البارزة ومنها التهمة المدبرة التي أدخلته السجن وسلسلة اللقاءات التي جمعته مع ثلة من رجالات سورية ومن أبرزهم محمد ابراهيم العلي وتهنئة جمال عبد الناصر له بالتخرج. بمرارة يتحدث عن الانفصال ومرحلته القاسية التي أدت إلى وأد أول حلم عربي وحدوي، وبأسلوبه الشيق يسرد الكاتب ذكرياته متوقفا عند كل مرحلة ودوره في ثورة الثامن من آذار وبالتفصيل يتحدث عن هذه المرحلة وشخوصها والارهاصات التي كانت تسودها. ويتوقف مع لقائه جمال عبد الناصر بعد ثورة الثامن من آذار.
ولا ينسى ذكر حياته الشخصية وتعرفه على زوجته التي تعتبر من المحطات الإنسانية المتميزة في حياة الكاتب، ويركز على بعض المواقف السياسية البارزة. ويكشف الكاتب عن الكثير من الأسرار والخفايا في تلك المرحلة التي تلت ثورة الثامن من آذار والصراع الذي كان يجري مرة في العلن ومرات في الخفاء والتحالفات والمؤامرات التي كانت تحاك بين أطراف الصراع ونقله إلى انقرة كملحق عسكري، ويختم الكاتب هذا الجزء من ذكرياته بسرد تداعيات حرب حزيران على سورية الأرض والإنسان ويتركنا ننتظر الجزء الثاني من هذه الذكريات لنتعرف على أسرار وأحداث لم نكن نعرفها. ونحن نختم هذه القراءة البسيطة لهذا الكتاب الذي يشكل مدماكاً مهماً في سلسلة بناء الذاكرة السورية، نتمنى من اللـه أن يمد في عمر الأستاذ سليمان حداد ليتحفنا بالأجزاء الباقية من ذكرياته.