قضايا وآراء

ما الذي ترمي إليه «الإدارة الذاتية» من الإعلان عن إجراء انتخابات؟

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن أعلنت «الإدارة الذاتية» عن عقد «مؤتمرها الرابع» بمدينة الرقة 20 كانون الأول المنصرم الذي استبقته بالإعلان عن «عقد اجتماعي جديد»، كان من الواضح أن الأخيرة قد قررت المضي بعيداً في مساراتها التي تريد لها أن تحقق المزيد من الافتراقات مع دمشق من دون أن يؤدي ذلك لتحقيق التقارب مع «المعارضة السورية»، بل على العكس فقد جاءت خطوة «الإدارة» آنفة الذكر، لتثير هواجس وشكوك لدى المعارضة لا تقل حدة عن تلك التي استولدتها عند الحكومة السورية التي ارتأت في الفعل تعميقاً لـ«حيثية» جغرافية أخطر ما فيها هو أنها تحدث في سياق الاستقواء بالخارج، مع ملاحظة أن «الإدارة الذاتية» تنطلق في رسم «قفزاتها» من إدراك لحقيقة مفادها أن الوجود الأميركي غير الشرعي على الأراضي السورية يهدف بالدرجة الأولى إلى ضرب الدور الجيوسياسي السوري الذي تضطلع به دمشق منذ العام 1948، مثل هكذا مسار يعني أن المشروع يجهد لخلق حالة تناحرية مع كل المكونات السياسية السورية دونما استثناء.

جاء إعلان «الإدارة الذاتية»، الحاصل قبل أيام، عن عزمها إجراء انتخابات، شهر أيار الجاري، لـ«مجالس المدن والبلديات»، وكذا لـ«مجلس الشعوب» الذي يمثل حالة هي أقرب لـ«المجلس التشريعي» المنوط به إقرار القوانين والتشريعات والتصديق عليها، ليصب في سياقات «الحالة» آنفة الذكر، لكن من المؤكد هو أن الفعل، على الرغم من الإعلان عنه منذ شهر كانون الأول المنصرم، إلا أنه يهدف إلى إرسال رسائل شتى في اتجاهات متعددة، والأهم منها يستهدف واشنطن التي تمثل حاملة «المشروع» برمته، ثم يستهدف موسكو بدرجة ثانية بوصفها حليفة لدمشق التي تجاهلت تماماً التعليق على خطوة «الإدارة الذاتية»، هذه الأخيرة، والتي يصح توصيفها، من الناحية السياسية، على أنها «قفزة في الفراغ» من الصعب لها أن تحقق أدنى مراميها حتى تلك المشار إليها والتي تضعها في سياق «صندوق بريد».

بدا الموقف الأميركي رمادياً، فواشنطن لم تعلن عن تأييدها لخطوة «الإدارة الذاتية» ولا هي أعلنت، ولو بتعليق، عن تحفظها تجاه تلك الخطوة، ما يضع الموقف الأميركي في موقع «المنزلة بين المنزلتين»، والراجح هنا أن واشنطن أرادت القول إن ما تقوم به «الإدارة» هو شأن خاص بها، لكن الأكيد هو أن هذه الإدارة بدت «قلقة» تجاه هذه «الرمادية» الأميركية الناجمة، بالتأكيد، عن مراعاة للحساسية التركية تجاه كل ما يخص المشروع القائم شرق الفرات، وإذا ما كانت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المقررة لواشنطن شهر أيار الجاري قد أُرْجِئَتْ، كما جرى الإعلان في أنقرة، إلى موعد لاحق غير محدد، ما يشير إلى وجود تناقضات ما بين الموقفين التركي والأميركي وفي الذروة منها الشق المتعلق بمشروع «الإدارة الذاتية»، فإن واشنطن، عبر موقفها «الرمادي»، اختارت ألا تدفع بالتناقضات نحو حال من التسعير قد يطول الوقت قبيل أن يستطيع كم المصالح حله.

ثمة رسالة تستهدف أيضاً «صندوق البريد» الروسي، ومفادها أن تقوم موسكو بالضغط على دمشق لإطلاق الحوار المتعثر ما بين الأخيرة وبين وفود «الإدارة الذاتية» التي كانت تجيء إليها بدافع واحد هو إثبات أن الإدارة مصرة على إبقاء باب الحوار مفتوحاً.

من المؤكد أن القيمين على المشروع مدركين جيداً لرزمة المعطيات والحقائق التي تجعل من دوام هذا الأخير واستمراره أمراً يتناقض مع كلاهما، فلا الديموغرافيا بحال يسمح لاستنساخ تجربة شمال العراق التي ترسخت في ظلال الحراب الأميركية، ولا حقائق التاريخ تسند ادعاء «القيمين»، ناهيك عن أن النسيج المجتمعي السوري برمته، بموالاته ومعارضيه، ينظر إلى ذلك الأمر على أنه محاولة لتقطيع أوصال البلاد استثماراً في لحظة سياسية شديدة الصعوبة، وهو ما ينزع صفة «الوطنية» عن أي حراك يمكن له أن يندرج في سياقات ذلك المشروع، والمؤكد هنا أن كل «القفزات» السابقة، ثم الراهنة والتي ستليها، لا تعدو أن تكون محاولة لتحريض هذا الطرف أو ذاك داخلياً كان أم خارجياً، أو لـ«مغازلة» آخرين من الطرفين، بغرض انتزاع أي اعتراف، ومن أي نوع كان، أو الحصول على «تعاطف» يمكن له أن يساعد في ترسيخ حيثية ما لذلك المشروع.

من المبكر الآن الحديث عن الآجال التي سوف تكون «الإدارة الذاتية» على موعد حتمي معها، إذ لطالما كان الفعل ذا علاقة بتسويات كبرى، إقليمية ودولية، لكن المؤكد هو أن تلك التسويات، عندما تحين مواعيدها، سوف تكنس معها الكثير مما تراكم بين جنبات نسيج سوري يقول تاريخه الممتد لعشرة آلاف سنة على أقل تقدير أن سمته الأبرز هي التعايش، وإن التناغم الحاصل ما بين «المتعايشين» كان يمثل على الدوام فعلاً حضارياً نشطاً، وإن الأحداث السورية، من عام 2011 وحتى الآن، كانت في عمقها تأكيداً على ذلك وليس العكس رغم ما شابها من محطات كانت نتاجاً لفعل «غير سوري».

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن