يكاد يكون ما يجري في أميركا عصياً على الفهم، فقد كرر بايدن تهمة «معاداة السامية» التي وجهها النتن ياهو للمحتجين على الحرب من طلاب الجامعات الأميركية! كما أثنى ترامب على حملة الاعتقالات الواسعة في صفوف الطلبة ووصفهم بأنهم «طائشون غاضبون ومتعاطفون مع حماس»، وهذه من الأشياء النادرة التي تتفق فيها فيلة الجمهوريين مع حمير الديمقراطيين!
تختلف مطالب الطلبة الأميركان من جامعة إلى أخرى، لكنهم جميعاً يطالبون «بإنهاء أي استثمارات لجامعاتهم مع إسرائيل». قال لي أحد القراء مندهشاً: استثمارات! وهل الجامعات
مصارف كي تستثمر أموالها! مالا يعرفه الكثير من القراء أن الجامعات الأميركية تتلقى تبرعات هائلة لدرجة أن ميزانية بعضها أكبر بعدة أضعاف من ميزانيات بعض الدول الصغيرة!
من المعروف تاريخياً أن اليهود يربحون من البيع بقدر ما يربحون من الشراء، وأكثر ما تتجلى براعتهم الخبيثة في شراء البشر، لذا فهم يسيطرون على الأغلبية الساحقة ممن يعملون في السياسة الأميركية، ولديهم أيدٍ خفية في كل مكان كفيلة بسحق من لا يبيعون أنفسهم. لقد زرعت الصهيونية رجالها في جل المناصب المفتاحية في المؤسسات الإعلامية والمالية القائمة في الغرب، وهناك من يعتقد أن أصابعهم الخفية تسيطر على «فيسبوك» و«يوتيوب» و«غوغل» وغيرها، وقد طرد «غوغل» مؤخراً 28 من العاملين لديه لدعمهم غزة، بحجة أن «مكان العمل ليس مخصصاً للسياسة». لكن هذه السيطرة بدأت تتآكل، وقد عجزت إغراءات الصهاينة عن شراء الكثير من شباب الجيل الجديد، الذين يتشكل وعيهم الآن.
المفاجئ حقاً هو أن حركة دعم غزة الطلابية انطلقت من جامعة كولومبيا التي تضم أبناء نخبة الطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة لأميركا، أي إن الطلاب الذين اعتقلتهم الشرطة الأميركية يوم أمس قد يخرج من بينهم رئيس أميركا غداً.
الطريف في الأمر هو أن رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق المصرية الأصل التي تحمل الجنسيتين البريطانية والأميركية قد التزمت الصمت في البداية، لكنها غيرت رأيها بعد أن استدعيت هي وزملاؤها رؤساء جامعات «هارفرد» و«بنسلفانيا» و«معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، إلى جلسات استجواب أمام لجنة التعليم في الكونغرس، فأدانت «اللغة المعادية للسامية وسلوك الترهيب والمضايقة» وبررت اقتحام الشرطة لحرم جامعتها بوجود «أفراد لا ينتمون إلى جامعة كولومبيا، ممَّن جاؤوا لمتابعة أجنداتهم الخاصة»، إلا أن خضوعها لم ينفعها، إذ استمرت الأصوات المطالبة باستقالتها، من قِبَل الأطراف المختلفة! وقد كان اعتقال قادة الطلبة بمثابة صب للزيت على النار، إذ امتدت الاحتجاجات لمختلف الجامعات مطالبة بوقف تسليح الكيان وإنهاء الاستيطان وتفكيك نظام الفصل العنصري.
الشيء المؤكد هو أن الكيان السرطان استخدم كل أذرعه، الخفية منها والعلنية، فقد هدد جهازُ الموساد الطلبةَ، من خلال حسابه الرسمي على موقع «إكس»، تويتر سابقاً، بأنه يستطيع من خلال التقنية «التعرف على وجوه كل من يشاركون في الاحتجاجات المؤيدة لحماس في الجامعات»، مهدداً هؤلاء بـ«خسارة فرص التوظيف».
لا شك أن ما يقوم به طلبة الجامعات في أميركا وخارجها له أهمية بالغة، لكن الفضل الأول وما قبل الأخير هو لصمود أبطال غزة على أرضهم ووقوف إخوتهم، داخل فلسطين وخارجها، إلى جانبهم. بحيث يمكننا القول إن غزة تعيد صياغة العالم.