المقاومة الفلسطينية بين الصمود العسكري والتلون السياسي.. بانتظار معركة رفح
| فراس عزيز ديب
مع تصاعدِ الحديث عن تقاربٍ غير مسبوق قد يُفضي إلى قبولِ خطي لحركة حماس بمقترحاتِ وقف إطلاق النار التي تمت مناقشتها في القاهرة بحضورِ استخباراتي أميركي، كان قد طغى في الأيام القليلة الماضية الحديث عن مستقبلِ حركة حماس أياً كان ردها وبمعنى آخر: أي مستقبلٍ ينتظر قادة الحركة المقيمين خارج الأراضي المحتلة أو داخلها في ظلِّ صمود الحركة أمام الكثير من الضغوطات للقبول بالشروط الإسرائيلية لوقفِ إطلاق النار من بينها الشرط الأهم، أي إطلاق سراح كامل الرهائن الإسرائيليين وبالتالي سحبَ آخرَ ورقةٍ رابحة بيد المقاومة أفرزتها أحداث طوفان الأقصى.
ترى الكثير من الأوساط السياسيةِ الأوروبية أن المستقبلَ سيكون لأعضاءِ المكتب السياسي للحركة فقط، أي إن ما يُشاع عن وعودٍ من قبل قادة الجناح السياسي للحركة عن قبولٍ باتفاقيات أوسلو التي تعترف بحدود 1967 ونزعَ سلاحِ المقاومة هو ليسَ مجردَ تسريباتٍ لا معنى لها، بل هي في الحقيقة بصلبِ النقاشات الجارية حالياً بمعزلٍ عن وقف إطلاق النار من عدمه.
ربما قد تستند هذه الأفكار إلى الكثيرِ من المعلومات، لكن وبقراءةٍ متأنيةٍ لها نبدو في الحقيقةِ فعلياً أمام تغيراتٍ كبيرة ستُفضي إليها الحرب الإجرامية للكيان الصهيوني على القطاع، نحن لا نتحدث هنا فقط عن تصفيةِ الأجنحةِ العسكرية للمقاومة والسماح لمن يُريد الخروج طواعيةً من القطاع إلى الجهةِ التي يختارها بشرط قبول تلك الجهة استضافته، لكننا نتحدث بالسياق ذاته عن تبدلاتٍ جوهرية في صيغةِ العمل السياسي الفلسطيني يبدأ بمكونات السلطة الفلسطينية وآليةَ انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني بصورةٍ ديمقراطية لا تلغي أحداً وبإشرافٍ دولي ينتهي بتوحيدِ وجهات النظر حولَ شكل العلاقة مع دولةِ الاحتلال.
بالسياق ذاته، لا تبدو التسريبات التي كانت تملأ الشبكات الإخبارية عن قيام قطر بمفاضلةِ أعضاء المكتب السياسي الموجودين على أراضيها بين الضغط على الجناح العسكري لقبول اتفاقيات وقف إطلاق النار وبين المغادرة هي مجردَ حشوٍ إعلامي لا طائلَ منه، فالمشيخة الباحثة عن دورٍ في حمامِ الدمِ العربي المفتوح منذُ فتاوى شيخِ الفتنة المقبور يوسف القرضاوي عن «قتل ثلث الشعب ليحيا الثلثان» ترى باستضافةِ الجناح السياسي للحركة هدفاً ببعدين:
البعد الأول، تحقيقَ الفصلِ الكامل بين طموحاتِ المجاهدين على الأرض، ورغباتِ «المجاهدين على منصات الفنادق»، بعدَ أن نجحت بمهمتها الأولى قبلَ أكثر من عقدٍ من الزمن عبرَ أذرعها الإعلامية بالفصل النهائي بين حركةِ حماس وحركة فتح، وما عناه هذا الفصل يومها من اقتتالٍ داخلي أضعفَ القضية الفلسطينية حتى الترهل، هذا الفصل المزدوج أدى فعلياً إلى إضعاف موقف الحركة مهما حاول البعض تجميلَ هذه الصورة، لكن الحقيقة لا تبدو بهذا الاستسهال، ولكي نفهم ما عناهُ هذا الفصل دعونا نتذكر مثلاً حجم التناقضات في تصريحات المدعو إسماعيل هنية أو الناطقين الرسميين باسم حماس في الخارج وما أكثرهم، وبين بيانات المقاومين في الداخل، تحديداً لجهةِ إصرار من هُم في الخارجِ على أن المقاومة لن تتراجع أبداً حتى زوال العدوان، فيما على الأرض كان كل شارعٍ يخرج منه المقاومون هو بمثابةِ إحباط لا رجعةَ فيه، أما داخلَ غرف التفاوض المغلقة فكانوا يصلون حد التبرؤ مما جرى ويجري!
البعد الثاني، تمثلَ بالتجريدِ البطيء لإنجازاتِ طوفان الأقصى لدرجةٍ بات معها المقاومون اليوم يدافعون عن آخرها، ورقة الرهائن، وهي الورقة التي ما إن خسرتها المقاومة ستعني حكماً خسارةَ أكبرَ رادعٍ لإجرام الكيان الصهيوني، قد تبدو هذه العبارة بحاجةٍ للوقوفِ عندها مطولاً، لأن كل ما سبق من إجرامٍ إسرائيلي لم يكن مضبوطاً كما يعتقد البعض بالحرص على حياة الرهائن، قلنا هذا الكلام أكثر من مرة إن الكيان يرى بالمعركة هذه معركة مصيرية ولو اضطر ليضحي بالرهائن، والدليل على ذلك كم عدد الرهائن الذين قتلوا نتيجة للقصف الإسرائيلي؟ ما الذي تغير؟ إلا إن كنا نظن بأن تظاهر عوائلهم أمام مكتب رئيس حكومة الكيان المجرم بنيامين نتنياهو هو إنجاز، لا أبداً، الإنجازات هي فقط تلكَ التي تعطيك ورقة قوية في السياسة والمفاوضات، عدا عن ذلك فكل هذهِ الانجازات التي يتحدثون عنها هي اجترار لخطابِ تجميل هزيمة العام 1967.
لكن على الجهةِ المقابلة هناكَ من يرى بهذهِ القراءة الكثيرَ من السوداوية وقد يبدو محقاً، لكن لعن الظلام لن يبدلَ في الواقع شيئاً، ولكي نكونَ أكثر واقعيةٍ دعونا نبحث عن شموعٍ نضيئها، لربما نستطيع أن نجد ما يعطينا نوراً آخرَ هذا النفق المظلم:
الشمعة الأولى، تتمثل بقدرة المقاومة في الداخلِ على الصمود أكثر، تحديداً مع دخول اللاعب اليمني خط الجبهة مباشرةً على حدود المتوسط وارتفاع حدة العمليات المتبادلة بين حزب اللـه والكيان الصهيوني، هذه الشمعة في القراءةِ السياسية تلقى كل الاحترام والتقدير، لكن في القراءةِ الواقعية لا تبدو أنها قادرة على فعل شيء، فحزب اللـه رغمَ كل ما قدمه ويقدمه من تضحياتٍ خسرَ فيها من خيرةَ كوادرهِ وأبنائِه، إلا أنه ما زال مكبلاً باعتباراتٍ داخلية وخارجية لا تجعله قادراً على كسرِ الخطوط الحمر في الصراع لأنها وتحديداً المعارضة له ستحملهُ المسؤولية عن أي خرابٍ ودمار، وهو ما لعب عليه الكيان الصهيوني بقوة لثقته بحلفائه في الداخل اللبناني، أما اليمني فإن حدود انغماسهِ بالصراع تبدو منضبطةً بحدودٍ عقلانية غير متهورة بما في ذلك مهاجمة السفن التي تفيد الكيان الصهيوني في الحرب، لكن هذا الانغماس لا يمكنه من الوصول لحد إغلاق باب المعابر المائية في الخليج العربي أمام حركة التجارة العالمية، لكن كلا الجانبين اللبناني واليمني، سيكون فعلياً شمعة تقضي على كل الظلام المحيط في حالِ تدرج ما يجري نحو مواجهةٍ كبرى فقط، لكنها للأسف تبدو فيما تبدو أكثر من بعيدة!
الشمعة الثانية، تبدو في الحديثِ عن الضمانات الدولية لأي اتفاق سيمنع الكيان من المغامرة أكثر بعد استردادِ رهائنه، هناك فعلياً من لا يزال يصدق فكرة الضمانات الدولية، هذه الفكرة تبدو هزلية كما هزلية القانون الدولي الذي سيُحاكم الكيان على جرائمهِ، لأننا عندما نتحدث عن ضماناتٍ دولية علينا أن نأخذَ بالحسبان الدور الذي يتمتع بهِ هذا الضامن على الساحةِ الدولية والمكانة من هذا الصراع والآليات التي يمتلكها لفرض التفاهمات قبل النوم في عسلِها، اليوم كيف ستحاول إقناعي كمواطن عربي ملتزم بقضايا أمتهِ بالضمانات الدولية عندما نرى قادة المكتب السياسي لحماس يدعون الجانب التركي ليكون أحد أطراف «وجاهتهم» لضمان الاتفاق؟ أجل هي تركيا نفسها التي لا تزال تصدر إلى الكيان حتى البيض والبسكويت، أما الجانب القطري فلا يستحق الوقوف عندهُ كثيراً لتشريح مكانته وأدواته هذا في الجانب «المؤيد لحماس» إن صحَّ التعبير لأن سلوكهم الظاهر بعيداً عن الشعارات يجعلهم أقرب للكيان من غيره، لكن ماذا عن الجانب الآخر؟
جميعهم من دون استثناء بما فيهم بعض الدول العربية كانت ظهيراً للكيان الصهيوني بطريقةٍ أو بأخرى، بعضهم يصنِّف حماس كحركةٍ إرهابية وبعضهم الآخر لم يستطع أن يتجاوز واقعيته، فأدان الكيان الصهيوني لكنهُ في الوقت ذاته اعتبر أن ما أقدمت عليه حماس خطأ فادح، إذاً عن أي ضمانات نتحدث؟
ربما سنتوقف عند هذا الحد لأن ما من شموعٍ أقله في الوقت الحالي قادرة على طردِ هذا الظلام، فماذا ينتظرنا؟
تبدو المغامرة الإسرائيلية مكملة من دون رجعة، حتى ما حكي عن إمكانية قبول حماس بما لا تريد القبول به، قابله تسريبات صهيونية بأن إسرائيل لن توقف حربها ولو استعادت الرهائن، كل ذلك يجري وما زال هناك من يحدثك عن ضمانات دولية وأصدقاء للقضية الفلسطينية.
الحقيقة تبدو أمامنا جلية، لكن هناك من لا يريد أن يراها ربما لأن رؤيتها مؤلمة، لكنه حكماً ليس أسوأ من الألم الذي نجنيه من تجاهلها.. وبانتظار معركةِ رفح.
كاتب سوري مقيم في فرنسا