ثقافة وفن

قدَّسوا الأعواد والمسدا

| إسماعيل مروة

إنه ذلك الذي نتلطى باسمه ولقبه، سواء عرفناه أم لم نعرفه..
هو الرمز المطلق الذي لا يدانيه رمز مهما بلغ..
هو الشهيد، وهل مثل الشهيد؟

ذلك الذي دفع دمه وحياته من أجل ما يستحق في نظره، هو الذي ألقى ما في يده دون اكتراث لما هو قادم، زهد بالدنيا، أعطى كل شيء قدره، فوجد ما لديه أقل مما عرف، أعطى والديه وإخوته، افتدى نساءه، حمل على راحتيه أطفاله، ووجد أن هؤلاء أغلى مما يملك، ورسم في عينيه لوحة وطنه وأرضه، فاختار أن يسيّج كل من أحب وما أحب في حديقة الوطن، واختار لذلك أن يزرعه بورود حمراء بلون دمه الزكي.

مقاتلاً كان.. عاملاً كان.. أديباً كان.. أستاذاً كان.. فيلسوفاً كان..

في هذا اليوم الباقي في الذاكرة والوجدان والعقل، تقدم كل هؤلاء بثبات، لم تفرق الشرائع بينهم، لم تفرق الانتماءات والمناطق والقوميات، في هذا اليوم أعطانا أبطال الفكر والثبات درساً لا ينسى لمن يعي..! فالشهادة لا ينالها المقاتل وحده، ومن العجيب الذي يجب أن نتملاه أن هذا اليوم لا يشاركنا فيه شعب آخر.. فالشهداء عندنا رووا الأرض منذ أقدم العصور، وجاء العرب فأكبروا مفهوم الموت من أجل الأرض، وجاء الإسلام ليعلي النص المقدس مكانة الشهيد، ويرفع ما قدّمه إلى درجات الأنبياء والقديسين، وفي كل الأزمنة قاتل أبناء الأرض العربية من أجل استقلالهم وأرضهم، ولكن الذي يستوقفنا حقاً، ويجب أن نعطيه الأهمية أن يوم السادس من أيار الذي اعتمد يوماً للشهداء في سورية ولبنان تحديداً ارتبط بكوكبة من أبناء الوطن الذين ضحوا بأنفسهم ولم يكونوا مقاتلين، وإنما كانوا أصحاب رأي وعلم وسياسة، وما من واحد منهم كان مقاتلاً.. واعتمد هذا التاريخ عيداً لاستذكار مفهوم الشهادة، وبه ألحق كل الشهداء الذين جاؤوا قبل وبعد هذا التاريخ، ما أعطى يوم السادس من أيار قيمة مضافة، فهو ليس الأول من أيام الشهادة، ولن يكون الأخير، لكنه دلالة على مفهوم الشهادة في أبهى معانيها، الشهادة من أجل الموقف والفكر، الشهادة من أجل التحرر، الشهادة دون أن يكون الأمر متعلقاً بسلاح أو ما شابه ذلك في أرض المعركة، يا لهؤلاء الأوائل العباقرة في اختيار يوم الشهيد الذي يمثل سورية ولبنان، ويمثل هذا المعنى السامي في أبهى صوره.. وهذا ما دفع الشاعر القروي رشيد سليم الخوري للوقوف أمامهم وهو المعايش والمعاصر والشاهد، وقفة كما لو أنه في حرم القداسة والصلاة، بل هو كذلك كان في استعارته، وفي كل موقف:

خير المطالع تسليم على الشهدا
أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
قد علقتكم يد الجاني ملطخة
فقدست بكم الأعواد والمسدا

فبين مطلع قصيدة، ومطلع فجر اليوم والحياة والحرية يقف القروي ليبدأ صلاة أبدية على أرواح هؤلاء الشهداء، وها هو يسجل للتاريخ الكيفية التي استشهدوا بها، فقد علقهم الجاني، ليعطي من قداسة أرواحهم ودمائهم ما يكفي لتطهير أعواد المشانق وحبالها التي علّق عليها الأحرار.

الشهادة قرار وليست مصادفة، وفي شهداء السادس من أيار كانت قراراً، فالمفكر لم يتنازل عن فكره، وطالب الحرية تمسك بحريته، والمنتسب إلى جمعية أعلن انتماءه، واليوناني خطيب ماري عجمي تمسك بما يؤمن به، ولو لم يكن من أجل أرضه، كلهم قرروا أن يكونوا منارات وشهداء، وتقدموا إلى أعواد المشانق دون خوف أو تردد أو وجل، وهكذا يكتسب فعل الشهادة قيمته، من عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة، وهو الذي كان على يقين باستشهاده، لكنه تغلب على التردد، ألقى الحياة الدنيا من يده وقال لها: والله يا نفس لتدخلن الجنة

تقدم وحمل الراية وقاتل واستشهد، وهؤلاء الذين نحتفي بهم ونشرف بأننا ننتمي إليهم تقدموا للشهادة، وهم يعلمون حق العلم بأنهم سيغادرون الحياة، وقد اتخذوا القرار بأن يكونوا شهداء..

أكثر من قرن مرّ على هذه الكوكبة، وفي دمشق وبيروت ما تزال دماؤهم حاضرة، وذكراهم تدين المحتل، وقد صدق شاعر العربية محمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» حين وصف ما يفعله الشهداء بالإحسان.

يعطي الشهيد فلا والله ما شهدت
عيني كإحسانه في القوم إحسانا
إجلال وانحناء أمام إحسانكم.. إكبار لكم منارات الحياة والأوطان.
فهل يكفي الشعر والغناء والتمجيد، وأنتم سلسلة ما تزال تروي أرض الوطن؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن