سُئل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على منصة دولية: «هل حياة اليهود أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين والمسلمين»؟ أجاب: «لا، ونقطة على السطر»، ومن الواضح أن هذا لم يقنع أحداً.
وسُئل هل لديكم «معايير مزدوجة»؟ كان الجواب: لا، وهذه الأسئلة المحرجة باتت تلاحق كبار المسؤولين الأميركيين وفي مقدمهم رئيس الدبلوماسية الأميركية وسيد البيت الأبيض.
منذ عقود مضت وحتى الآن يتعاظم نفوذ اللوبي اليهودي ويتقدم رموزه صفوف المانحين والممولين الرئيسيين للحملات الانتخابية بداية من الولايات مروراً بالكونغرس وصولًا إلى انتخابات الرئاسة الأميركية، فالولايات المتحدة الأميركية، وعلى امتداد السنين وتعاقب الإدارات، إسرائيلية الهوى، يهودية الانحياز، وصهيونية التوجه، لا تعرف الحياد متى كانت إسرائيل حاضرة، وأسفر الحق الكامل في «الدفاع عن النفس» الذي منحته واشنطن لتل أبيب، عما يزيد على 35 ألف شهيد وآلاف الجرحى والمصابين، من دون إدانة أميركية لاستهداف المدنيين في قطاع غزة، وإنما تسويغ وقح للانتهاكات، وظهر ما سبق واضحاً في خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي ربط خلاله بدعم بلاده لأوكرانيا وإسرائيل، وشبه بايدن حركة حماس بروسيا وأدان العملية الفلسطينية الفدائية في 7 تشرين الأول.
وعلى مدار سنتين هي عمر الحرب الأوكرانية، كانت التوصيفات الأميركية حاضرة منذ البداية: أوكرانيا تقاوم، وروسيا دولة غازية، إلا أن هذا المعيار كان غائباً في مشهد حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة، وكان محل إدانة المجتمع الدولي برمته، إلا أن واشنطن انحازت وبشكل مطلق لجانب إسرائيل.
نفاق أميركا وازدواجية معاييرها كانا حاضرين منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، ومعظم دول وشعوب العالم تعتقد ببساطة أن إدارة الرئيس جو بايدن لديها معايير مزدوجة، تدين بموجبها خصومها، مثل روسيا، وتتجاهل أو تسوغ الجرائم التي يرتكبها أصدقاؤها، مثل إسرائيل.
هذا التصور منتشر على نطاق واسع، حتى لدى حلفاء واشنطن وفي حرم الجامعات الغربية حيث يتظاهر آلاف الطلاب الأميركيين، على الرغم من أنه يوجد في أميركا قانون يُسمى «قانون ليهي»، وهو يحمل اسم، عضو مجلس الشيوخ السابق، باتريك ليهي، ويحظر على وزارة الخارجية والبنتاغون مساعدة وحدات من القوات المسلحة الأجنبية المتورطة في «انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان»، وتم إقراره، في التسعينيات، وكان القانون يستهدف قوات الكوماندوز المتمردة في كولومبيا.
اليوم يستعد بلينكن لتطبيق «قانون ليهي» على وحدة من الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى، وتتمثل الخطة في حجب المساعدات الأميركية عن كتيبة تدعى «نتساح يهودا»، أسست للجنود المتشددين، تضم مجندين من المستوطنين الصهاينة اليمينيين المتطرفين في الضفة الغربية، ووفقاً للأدلة ارتكبت «نتساح يهودا» انتهاكات لحقوق الإنسان بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية.
المشكلة هي أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمر باستخدام القوة «العشوائية»، حسب بايدن، ضد المدنيين في قطاع غزة، ويجب معاقبة «نتساح يهودا» على ما فعلته في الضفة الغربية، قبل 7 تشرين الأول، ولكن وفي السياق الحالي، يعد استهداف «قانون ليهي» لإسرائيل رمزياً بالدرجة الأولى.
إن تقليص المساعدات المقدمة إلى «نتساح يهودا» لن يقنع نتنياهو بالتخفيف من سياسته، وقد رفض نتنياهو بالفعل الخطوة ووصفها بأنها «ذروة السخافة والانحطاط الأخلاقي».
المفارقة أنه عندما كان بلينكن يضع اللمسات الأخيرة بموجب «قانون ليهي»، كان الكونغرس يسرع بتقديم حزمة تشريعية ستمنح إسرائيل، 26 مليار دولار، علاوة على المساعدات التي ترسلها الولايات المتحدة بالفعل كل عام.
أرسل بايدن أيضاً إشارة أخرى أكثر غموضاً في مجلس الأمن، إذ كانت الجزائر اقترحت رفع عضوية فلسطين في الأمم المتحدة من «مراقب دائم» إلى «عضو كامل»، واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو)، وكان هذا تناقضاً فاضحاً، لأن واشنطن تزعم أنها تؤيد بشدة إقامة دولة فلسطينية بوصفها الحل الوحيد.
سيستمر نتنياهو في تجاهل قانون ليهي وسيواصل الطلاب الأميركيون التظاهرات، وسيواصل العالم اتهام الولايات المتحدة بالنفاق وتطبيق المعايير المزدوجة.
يرى مدير برنامج الشأن الفلسطيني- الإسرائيلي في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، خالد الجندي، أن «ازدواجية المعايير في السياسة الأميركية، شيء ثابت»، ويرى الجندي أن عدداً متزايداً من الأميركيين يعارضون هذه السياسة المزدوجة لإدارة بايدن وخصوصاً بين الشباب دون الـ35، مشيراً إلى الأعداد الضخمة التي تشارك في المظاهرات الداعمة لغزة في الولايات المتحدة.
وتشير الباحثة الهولندية نيت جيس إلى ازدواجية المعايير الغربية قائلة: «الحكومة الهولندية ترسل سلاح إف 35 إلى إسرائيل وفي الوقت نفسه يقولون إنهم ليسوا ضد وقف إطلاق النار في غزة».
غزة تفضح معايير أميركا المزدوجة، إدانة أميركية حاضرة لاستهداف المدنيين بأوكرانيا، تسويغ مفتوح لقتل أهالي القطاع بذريعة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
انتقد القادة العرب في قمة القاهرة للسلام ما وصفوه بالمعايير المزدوجةلأميركا.
وكتب كارل بيلدت رئيس الوزراء السويدي السابق على موقع إكس إن معظم العالم يرى معايير مزدوجة في السياسة الغربية بشأن الحربين، في حين كان بايدن يقول للصحفيين في تل أبيب، إنه أقنع إسرائيل بالسماح بدخول مساعدات إنسانية محدودة إلى غزة، كانت الولايات المتحدة تستخدم (الفيتو) ضد قرار لمجلس الأمن يدعو إلى المساعدات الإنسانية لتمكين وصول المساعدات إلى قطاع غزة.
وكان هذا هو القرار الثاني لمجلس الأمن الدولي بشأن الصراع بين إسرائيل وحماس الذي تفشله واشنطن، فقبلها رفض مجلس الأمن مشروع قرار صاغته روسيا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، ووصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق إلى غزة، وصوتت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا واليابان ضد القرار الروسي.
قال نائب مدير البرامج في هيومان رايتس ووتش، توم بورتيوس: إن النفاق والمعايير المزدوجة للدول الغربية أمر صارخ وواضح.
مع استمرار الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لمدة زادت عن نصف عام وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، نظر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مرة أخرى بطلب فلسطين في الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، لكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضده، وهذه المرة وقفت واشنطن ضد إرادة المجتمع الدولي.
تدعم الولايات المتحدة لفظياً «حل الدولتين»، لكنها في الواقع تعرقل حلم الفلسطينيين في إقامة دولة، الأمر الذي يفضح نفاقها وازدواجية معاييرها بشكل كامل.
الولايات المتحدة دائماً تأخذ بـ«المعايير المزدوجة» بشأن قضية الشرق الأوسط، الأمر الذي يدفع الشرق الأوسط إلى هاوية الحرب، ومن المفارقات أن تتغاضى واشنطن عن استمرار حرب الإبادة في غزة، على حين تدعي الاهتمام بالاحتياجات الإنسانية للسكان في قطاع غزة، وسلامة المدنيين ومن خداع النفس أن تتغاضى عن استمرار الحرب على حين تدعو إلى منع الصراع من الامتداد، ومنتهى النفاق إن تتغاضى عن استمرار الحرب على حين تتحدث عن حماية النساء والأطفال وحقوق الإنسان، أن كل ما فعلته الولايات المتحدة أظهر نفاق أميركا وازدواجية معاييرها.
وزير وسفير سوري سابق