شر البلية!
| عصام داري
منذ نحو ثلاثين سنة خلت وأنا أستعير أسماء زوايا صحفية ابتكرها رائد الصحافة العربية الساخرة حبيب كحالة، صاحب مجلة «المضحك المبكي» التي صدر العدد الأول منها في عام 1929، واستمرت في الصدور حتى عام 1966.
أما أسماء تلك الزوايا التي كنت «أستعيرها»! فقد كانت كثيرة جداً منها على وجه الخصوص: زاوية «حديث حشاش» وزاوية «حكمة حمار» وزاوية «إعراب المضحك المبكي» و«محكمة المضحك المبكي» وغير ذلك.
لكن قصتي مع المضحك المبكي قديمة جداً، وتعود إلى عهد الطفولة، حيث كانت هذه المجلة صديقة البيت الذي عشت فيه، وكان والدي يحضرها كل يوم سبت، فهي تصدر في هذا اليوم من كل أسبوع.
كنت أتابع هذه المجلة حتى قبل أن أتعلم القراءة والكتابة، وكانت الرسوم الكاريكاتورية تشدني بشدة، وأحاول أن أفسر ما يستعصى علي فهمه، وأسأل عادة عن معنى هذه الصورة أو تلك.
لكن العلاقة تطورت كثيراً عندما تعرفت إلى الأستاذ ياسر عبد ربه صاحب ورئيس تحرير مجلة «الشهر» الحاصلة على امتياز الصدور من فرنسا، وقد أدخل الأستاذ ياسر عشر صفحات من ضمن المجلة تحت تسمية «المضحك المبكي» كان ينشر فيها مقالات ساخرة في السياسة والاقتصاد والمجتمع.
وفي يوم من الأيام دعاني إلى المساهمة في الكتابة في هذه الصفحات الساخرة باعتباري أكتب مسرحيات ساخرة، وبدأ مشواري من هذه النقطة، وفيما بعد عندما ترجل الأستاذ ياسر عبد ربه وتسلم دفة مجلة «الشهر» نجله الصديق والزميل وضاح شغلت منصب مدير تحرير الشهر ورئيس تحرير المضحك المبكي، فكنت أكتب وأشرف على جميع المقالات التي تنشر هنا وهناك.
الجميل في «المضحك المبكي» أنك تستطيع أن تقرأ شيئاً مختلفاً عما هو متعارف عليه، فعلى سبيل المثال، ستجد في زاوية «حديث حشاش» كلاماً غير مترابط، يأخذك إلى موضوعات مختلفة يتناولها بطريقة ساخرة ولاذعة ولا يوفر أحداً من النقد والانتقاد.
وفي زاوية «حكمة حمار» ستجد الكثير من الحكم المستمدة من أرض الواقع، ولم ترد على ألسنة الحكماء والعقلاء والعلماء وذوي الخبرة والمعرفة، فالحمار نفسه يحمل حكمة الطيبة والتحمل والصبر، وما يصدر من حكم تحت هذه الزاوية يدعونا إلى الكثير من التفكر والتأمل، فهي ليست مجرد نكته أو طرفة عابرة.
حبيب كحالة ابتكر أسلوباً جديداً في الصحافة لم يسبقه إليه أحد في الوطن العربي، ولا حتى في مصر التي عرفت الكتابة الساخرة وبرز فيها عدد كبير من الكتاب والصحفيين الذين انتهجوا خطاً يستفز الناس ويحفزهم ويجعلهم يضحكون من همومهم ومشاكلهم، لكنهم في الوقت نفسه يجدون أن هناك من يعبر عنهم بأسلوب ساخر محبب، صحيح أنه قد لا يؤذي، لكنه في الوقت نفسه يسبب المشاكل الكبيرة لمن ينتهج هذا الأسلوب. وعلى سبيل المثال فقد تم إغلاق مجلة «المضحك المبكي» عدة مرات إما لأنها وجهت أسهم الانتقاد للمستعمر الفرنسي، وإما لسياسيين ووزراء ونواب وغيرهم، والأمر نفسه عاناه كثير من الكتاب والصحفيين، أكان نهجهم هو الصحافة الساخرة أم الجادة.
مع أن الكتابة الساخرة تبدو سهلة، إلا أنها من أصعب الكتابات الأدبية والصحفية هي والكتابة للطفل، فمن السهل أن تجعل الناس يبكون، لكن من الصعب جداً أن تجعلهم يضحكون، والمصيبة دائماً هي أن شر البلية ما يضحك.