قضايا وآراء

شمال غزة و«شمال إسرائيل»!

| علي عدنان إبراهيم

يعتقد البعض ممن يتابع أخبار غزة أن القطاع بات بمدنه مدمراً وغير صالح للحياة، وأن ما بقي منه فقط مدينة رفح في أقصى الجنوب والملاصقة للحدود المصرية التي يجهّز العدو لاقتحامها وتدميرها كما فعل في كل ما سبقها خلال الأشهر السبعة الماضية، وهذا الكلام صحيح، إلا أن هذا لا يعني أن مدينة غزة نفسها ومدن الشمال والوسط والجنوب خلت من سكانها أو باتت مدن أشباح، لا بل على العكس تماماً، فعلى الرغم من الدمار الذي لحق بها، مدن شمال غزة تضج بالحياة مجدداً.

قبل ساعات فقط تداولت صفحات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لزمرة من أطباء غزة وهم يقصّون شريط الافتتاح للمشفى الأندونيسي في بيت لاهيا شمال القطاع بعد أن أعيد تأهيله، هذا المشفى الذي اقتحمه جيش الاحتلال في تشرين الثاني الماضي ودمره بشكل شبه كامل بحجة أن المقاومين يستخدمونه مركز انطلاق لهم، يعود اليوم لتقديم الخدمة للمرضى ولو بأقل الإمكانات لكن بمعنويات شعب لا يعرف الهزيمة، أما في منطقة جباليا التي شهدت أعنف المعارك بين المقاومة وجيش الاحتلال، حضر الأطفال أولى الحصص التدريسية المتوقفة منذ أشهر بفضل افتتاح أول مشروع تعليمي داخل مركز النزوح المقام في مدرسة خليفة بن زايد قرب مخيم جباليا، وفيها رفع الأطفال لافتات باللغة الإنكليزية لشكر طلاب الجامعات الأميركية الذين احتجوا واعتقلوا لأجل غزة، كذلك تصل صور رائعة كحملات تنظيف الشوارع وعرض المنتجات وتزيين ما بقي من الحارات والأزقة، ومسن فلسطيني في الشمال يدعو المقاومة لعدم الاستسلام ويتوعد إسرائيل بـ«8 و9 و10 تشرين الأول».

أكثر من 300 ألف فلسطيني بقوا في مدن الشمال التي تحملت أعنف الضربات الإسرائيلية طوال أشهر، وشهدت معارك عنيفة بين قوات الاحتلال المتوغلة من جميع الاتجاهات والمقاومة التي استمر إطلاق صواريخها باتجاه مستوطنات غلاف غزة حتى الآن، هؤلاء الفلسطينيون الذين رفضوا النزوح باتجاه الجنوب ورفضوا اللجوء في مدارس «أونروا» وفضلوا على ذلك نصب خيمة فوق أسطح منازلهم المدمرة، عانوا الجوع وانتظروا هبوط المساعدات من السماء قبل أن تبدأ بالدخول برياً عبر معبر إيريز شمال القطاع قبل أيام، رغماً عن أنف إسرائيل، كثمرة أولى للصمود الأسطوري وللدعم الذي تلقاه الغزاويون من أحرار العالم على شكل ضغط أجبر حكومة نتنياهو على الانصياع وفتح المعبر وإدخال 30 شاحنة من المساعدات لأول مرة منذ بدء الحرب، وعلى الرغم من الحصار الذي يضربه جيش الاحتلال على مدن الشمال عبر ما سماه ممر نتساريم، وهي منطقة تشق القطاع إلى جزأين تسيطر عليها القوات الإسرائيلية، ويحذر المدنيين في رفح من التوجه إلى الشمال مع بدء إخلائهم لإطلاق هجومه على المدينة المكتظة، فعودة عشرات الآلاف من أهل غزة معاً إلى الشمال تحت أعين العالم سيجبر جيش الاحتلال على فتح الطريق لهم ما سيعزز الحياة في هذه المنطقة المنكوبة وبالتالي سيخلق الغطاء والحاضنة الحقيقية لتعود المقاومة بقوة وتثبت حضورها في الشمال، وهو أكثر ما يخيف الإسرائيليين الذين عانوا وصول صواريخ شمال غزة إلى تل أبيب.

بالمقابل، فسبعة أشهر على الحرب يقابلها 7 أشهر من إفراغ مستوطنات شمال فلسطين المحتلة من قاطنيها، منطقة الجليل الأعلى بكاملها باتت فارغة سوى من قوات الاحتلال التي تتلقى الضربات بشكل يومي من حزب اللـه والمقاومة الفلسطينية المتمركزة في جنوب لبنان، على حين ينتظر المستوطنون يوماً يدعوهم فيه رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو للعودة بعد أن يقضي على الرعب الذي يسببه لهم حزب الله، إلا أنه بات من الواضح استحالة هذا الأمر، فرئيس مستوطنة «كريات شمونة» التي تلقت خلال الساعات الأخيرة أكثر من 100 صاروخ من جنوب لبنان تسببت بوقوع إصابة وأضرار مادية ضخمة، أفيحاي شتيرن، يقول موضحاً بعد الضربة القاسية: «من يعتقد أن سكان كريات شمونة سيعودون إلى المدينة ليكونوا بطاً في حقل الرماية، يرتكب خطأ جسيماً»، ويضيف مهدداً حكومته: «إذا لم يكن هناك قرار واضح فإن تظاهرات شارع كابلان في تل أبيب ستكون مجرد لعبة أطفال مقارنة بما نخطط له قريباً»، وتأكيداً على ذلك يقول رئيس المجلس الإقليمي الغربي ماتيه آشر ورئيس منتدى مستوطنات خط المواجهة موشيه دافيدوفيتش: «منذ سبعة أشهر، مواطنونا لاجئون في بلدهم، هناك استخفاف كامل بحياة الإنسان، لقد فقد بعض السكان الأمل بالفعل ولن يعودوا، وانهارت الأعمال وهم يئنون تحت وطأة الديون المتراكمة، إن فقدان الثقة وعدم اليقين والشعور بعدم الأمان، هي خطوة أخرى في عدم قدرة الجمهور على التكيف»، يأتي هذا وسط نزوح أكثر من 250 ألف مستوطن من مستوطنات الشمال وتوزعهم على 380 فندقاً في شتى أنحاء كيان الاحتلال ما يشكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاد الكيان.

ما بين «شمال إسرائيل» المحمي ببطاريات الدفاع الجوي وقوات الاحتلال المدعومة بالمدفعية وسلاح الطيران الأقوى في المنطقة، وشمال غزة المحاصر والمدمر والمعرض للاستهداف بكل بقعة فيه في كل لحظة، فارق جوهري واحد هو، من صاحب الأرض الحقيقي؟ وعند الإجابة بكل واقعية على هذا السؤال يمكن معرفة السبب في بقاء شمال غزة حياً، وبالتالي قطاع غزة وفلسطين كلها، والسبب في موت «شمال إسرائيل» السريري وبالتالي الكيان كله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن