دهشة القبح وديدان ظلمة القبر!! بودلير وكائنات لا قيمة لها من حيث الإيحاء! … لغة النشاز والقبح هل تصنع أدباً؟!
| نجاح إبراهيم
لن أصدّق البياتي حين قال: «أشرب ظلام النور». لا أحتمل.. سأزيلُ العتمة عن جدراني، فهي مستهجنة تثيرُ هواجسي المخيفة، وسأحفرُ نافذة في قبري بأظافري، علّ الضوء يأتيني، فأنا أرتابُ من العتمة. أشعر ببرد لا يُطاق، أريد قلباً يستحيلُ مدفأة لأدفأ. يا ذا القلب، كن جمراً، كن قبراً!. حين كتبتُ هذه الجمل القليلة، قفز مقطع من قصيدة «بودلير» يقول فيها: «رائحة القبر تسبح في الظلمات وقدمي المتوحشة تدوس على حافة المستنقع على الضفادع والقواقع الباردة». رحت أتساءل عن السبب الكبير لاهتمام «بودلير» في استخدامه ألفاظاً تثير الاشمئزاز؟ بل إنه يعبر عن كائنات لا قيمة لها من حيث الإيحاء؟ فالشاعر يستجلب القبح ويصوّره في العتمة، يستدعيه بقصيدته، ليكون المكان الرّطب واللزج تحت قدمه، يرحّب بل لأنه «يوقظ سحراً جديداً». ويعتبره معادلاً للسرّ الجديد الذي يودّ أن يغزو أرضه، ويجعله نقطة انطلاق للارتقاء إلى المثالية. فالجمال سيأتي جديداً ومغايراً ويمكن– برأيه– أن يتساوى مع القبح حين يبلغ القلق الذي يتميز به عندما يتلقى ما هو تافه وسطحي، فيحوّله أو يشوّهه، ويجعل منه شيئاً غريباً مثيراً. فالأشياء لم تعد تحتمل الفكرة القديمة عن الجمال، لهذا يرغب في خلقه، على طريقة التدمير، ليأتي بشيء نقي وغريب. فما القبح؟ هل «هو الغياب السلبي للجميل، أم هو غير الجميل أو ضده.؟».
معيار الجمال في القبح
1- ثمّة من يقول: «إن القبح كان مغموراً سابقاً، سواء في الأدب أو الفن الحديث، وإن أول من أشار إليه هو «فيكتور هيجو»، وأكده «بودلير»، ومن ثم سارت الأجيال اللاحقة». فالفكرة القديمة عن الجمال لم تعد تحتمل، لهذا لجأ الحداثويون إلى استعمال الإضافات التي تدلُّ على الغرابة والدهشة، لتولد المفاجأة، ولا شيء سوى القبيح يقوم بهذه المهمة. ولكن لو عدنا إلى أدبنا العربي، لوجدنا القبح عند الشعراء منتشراً، ولعل الشاعر «دعبل الخزاعي» أكثر من اشتهر به، بل اشتهر بالبحث عنه، ليحيله إلى مادة تثير الدهشة، وربّما القبض على جمالية جديدة، أخذ يجده في جسد أنثوي، خلاف الشعراء الذين لم يروا فيه سوى مفاتن وجمالٍ راعب ومتعة كبيرة.
«صُدغاك قد شمِطا ونحرك يابسٌ… والصدرُ منك كجؤجؤ الطنبور».
«يامن أشبهها بحمى نافض… قطاعة للظهر ذات زفير».
فالشاعر يسعى إلى إبراز ما هو قبيح في امرأته، ومع ذلك نجده قد قدّم صورة جمالية في الشعر العربي دعتنا إلى الدهشة والتفكر، على الرّغم من أننا ندرك سبب الهجاء عند شعرائنا– وما أكثرهم، وأكثر هجائهم!- غالباً ما يكون بدافع رغبة الشاعر في أن يقلل من قيمة وقدر الشخص الذي قيل فيه، وكذلك ليدلّ على السخرية أو التعريض بالنقص الخلقي. سأعود إلى زمن ما قبل العصر الجاهلي، سأعود كعادتي إلى الأسطورة، والقبح الذي ورد في بعضها، أعود إلى «أوديب» الذي قام بفعل قبيح حين قتل أباه وتزوّج أمة، ظلّ هذا القبح واخزاً ومقشعراً لأبداننا، لكن حين قرأناه أدباً في مسرحية «سوفوكليس» لمسنا جمالاً والدليل خلوده. وكذا فعل «دانتي» في جحيمه، إذ كان الشيطان رمزاً للقبح والأفعال المشينة، ولا يمكن أن نقول عن الملاك، أو الحمامة شيئاً قبيحاً، لأن ذلك غير مقبول وليس برائق.
فكيف يستحيلُ القبح إلى جميل؟ لا شك أن الفنّ يقوم بهذه المهمة الصعبة، سواء كان شعراً أم عملاً سردياً أم رسماً. ولعلّ من استشهدت بجزء من قصيدته هو الأكثر جدارة لأدخل إلى عالمه القبيح، ألجُ عالم ديوانه «أزهار الشر».
جوانب الانحطاط الأخلاقي
2- الذي حوكم بسببه لاتهامه بالواقعية، والواقعية تعني أن الأدب يعبّر عن جوانب الانحطاط الأخلاقي في الواقع، من دون أن يكون له غاية. فأزهار الشر نجد فيه عالماً مقززاً فاسداً وبشعاً، وأصفرَ كالموت، عالماً يبعث على القلق والشعور باليأس، والغربة والعزلة، وقد أظهر هذا العالم المقيت في وصفه للمدينة، فجعلها قبيحة وعقيمة، تتهاوى في الرذيلة والخطيئة، وهي عبارة عن كتل حجرية وجحيم وتشبه المعتقل: «حيث يمكن تأمل المدينة بكاملها، سعتها مستشفى، ماخور، مطهر، جحيم، معتقل». بهذه الصور ينعت الشاعر المدينة، أنها قمة في القبح والبؤس والشر الذي يغلب على طابعها، والناس الذين فيها هم: «حثالة من الناس غير مميزة، متحولين إلى لعب كرتونية أو أشباح».
مزية مدهشة وفزع
3- والسؤال لماذا أكثر «بودلير» من إبراز القبح في مدينته من خلال قصائده؟ يجيب: «إن المزية المُدهشة للفنّ هي أن الشيء المفزع المخيف يصبح جميلاً إذا عبّر عنه فنياً».
4- وقد قال عن ديوانه «أزهار الشر»: «لحن نشاز من وحي آلهة الزمن الأخير». ولعله يقصد بالزمن الأخير، التقدم الذي وصلت إليه المدينة، فيعتبره من وجهة نظره يحيي الروح المتوثبة، وما سيطرة المادة إلا نفث للاشمئزاز والتصحّر، وقد أكد هذه الفكرة غير قليل من الأدباء، منهم، ستندال وفلوبير، فحين مزج بودلير بين نشاز يدفع إلى الألم وبين الفرح، بين الشكوى والمتعة، صنع من ذلك لحناً تشمئز منه النفس، ولكنه يصبح أليفاً مع سمو اللحن لتولد «متعة حارة بالمقاومة». فبودلير طمح من وراء إثارة القبح، أن يعطي الأدب صدمة عصبية، أي استخدم صوراً تثير الأعصاب، ليهاجم بها ما هو تافه وتقليدي، ليرتقي إلى ما هو جميل، في حين الشاعر الفرنسي «رامبو» صاحب مقولة: «عبّر عما لا سبيل للتعبير عنه». فهو لا يبحث عن القبيح وإنما يقوم بتقبيح الجميل، ليثير الدهشة المرجوة، فقد تناول أسطورة «فينوس» ربة الحب والجمال، إذ أزال عنها هاتين السمتين ليصنع منها كائناً قبيحاً ومخيفاً، ومقرفاً، جعلها امرأة بشعة ذات رأس مقروح، ورقبة غليظة، كالحة فوق ظهر مقوس، في حين رائحتها تثير القرف». والرقبة بعد ذلك مكتنزة بالشحم وداكنة، والكتفان العريضان بارزان، والظهر القصير معوج، الدهن يلمع تحت الجلد كالأوراق الملساء، والاستدارة أسفل الظهر تبدو شديدة الانتفاخ. «ومن يتفكر في غاية رامبو لهذا التقبيح المفتعل، يدرك مرده حيث كرهه لكلّ ما هو قديم ويمتّ بصلة للأسطورة، وثمّة رغبة لديه جامحة لكي يجعل للقبح أسلوباً يعبّر من خلاله عما لا سبيل للتعبير عنه. وقصيدته «القاعدون» التي قال عنها فيرلين بأنها: «أسطورة للقبح الفظيع». فحديثها ينصبّ على جماعة من العجائز تتجسّد فيهم الحيوانية والشرّ والتعاسة والخمول، وإن كان المحفز على كتابة القصيدة غير ذلك. ويمتطي «مالارميه» صهوة القبح مالئاً لغته بالنشاز، الذي سيطر على بناء القصيدة إذ يعتبر أن «النشاز الكامن في الرّوح والفكر والشعر الحديث، ليس من صفات الإنسان، بل كذلك من صفات الوجود المطلق نفسه». «صولجان الشطآن الوردية الآسنة فوق الأمسيات الذهبية هو هذا الرفيف الأبيض المطوي الذي تسندينه على نار». ويبقى السؤال: هل هناك من يحتمل القبح، وينتظر تأمل الرماد الباهت، فهناك جمر تحته يتهيأ؟ وفي عمق الماء الساكن نبت تتطاول أعناقه لتحرك الساكن بتويج زهرة مرشحة للتنفس؟ لو كان القبح على هذه الشاكلة لكان من الأكيد احتماله، ولكن أن يكون كقبح صاحب أزهار الشر، واحتمال ديدان ظلمة القبر، فهذا….؟!. إنه الأدب يعبر عما لا سبيل.