قبل نحو اثني عشر عاماً في حين كانت خفافيش الظلام تحدق بأقدم مدن العالم حلب، نشر الأديب والناقد والأكاديمي البارز نضال الصالح على صفحته في الفيس بوك، لسان حال عن رحلته الأليمة في المدينة المحاصرة بحثاً عن ربطة خبز! والحق أن كلماته زلزلت كياني، وأغرقتني في نوبة نشيج أطبقت على صدري وأغلقته حتى حسبت أنها ستأخذني قبل أن تنقضي.
يومها كتبت في هذا الركن زاوية بعنوان «النضال الصالح الوحيد» عرّفت فيها بالصديق الأديب والناقد والأكاديمي الدكتور نضال الصالح، وما كان يعانيه هو وجميع أهلنا في أم المدن حلب تحت وطأة حصار الظلاميين وحليفهم التركي! يومها حرصت على عدم استخدام صيغة الدكتور نضال التي توجع القلب، لعلمي أن قارئ (الوطن) آنذاك لم يكن ينقصه الوجع، بل أعدت كتابة الحادثة بأسلوبي، متعمداً سرد وقائعها بكلمات بسيطة تكاد تكون خالية من أي عاطفة.
صبيحة صدور المقال في الجريدة انهار نظام حاسبي المحمول فحملته متوجهاً إلى مركز الصيانة في اللاذقية. كان مركز الصيانة يقع في دخلة قصيرة مغلقة متعامدة مع شارع رئيسي، وبينما كان المهندس يعيد تأهيل كمبيوتري رن جرس هاتفي المحمول وظهر على شاشته اسم د. نضال الصالح، فتحت الخط فسمعته يقول: «أخي حسن» بصوت مقلوب محمول على دفق من نشيج. أحسست بالدم يندفع إلى رأسي إذ تسارعت دقات قلبي، فانطلقت، قبل أن أنطق بحرف، إلى خارج مركز الصيانة، كنت مضطرباً ومرتبكاً لذا وقفت قبالة جدار أسود ورحت أستمع لكلام نضال الودود العذب والدموع تطفر من عيني، أسندت رأسي إلى الجدار وأنا أكفكف دموعي مصغياً لعبارات نضال الجارحة في رقتها، وخلال لحظات رأيت عبر ما ظننته جداراً أسود، صالة مقهى مليء بالرواد وجميعهم يحدقون بي! وفي تلك اللحظة خرج أحدهم من باب المقهى واقترب مني متسائلاً بلطف: «خير أستاذ؟» رفعت له يدي وهربت منه منطلقاً إلى الشارع بخطوات واسعة.
بعد قليل حكيت لأخي نضال عن الموقف المحرج الذي كنت فيه، فرحنا نضحك معاً، وهكذا انتقلنا من أقصى البكاء إلى أقصى الضحك.
تعرفت على نضال الصالح أواسط سبعينيات القرن الماضي، عندما عينت عضو لجنة تحكيم لمسابقة القصة القصيرة في المهرجان المركزي الأدبي، إذ كان من المعتاد آنذاك أن يعين الفائز بالجائزة الأولى في الشعر أو القصة عضواً في لجنة تحكيم الدورة التالية، وقد أقيمت تلك الدورة في جامعة حلب. لم يكن فرق العمر بيننا كبيراً، لكنني ما أزال أشعر بالخجل حتى الآن، لأنني كنت فظاً في مناقشة قصة نضال الصالح، إذ استعرضت نقاط ضعفها بشيء من التباهي الأرعن. وما أدهشني حقاً هو أن نضال الصالح لم يحتجّ على فظاظتي، وقد كان ذلك من حقه لو فعل، كما لم يدافع عن قصته ولو بكلمة واحدة. وما جعل نضال يكبر في عيني كثيراً هو أنه لم يحقد عليَّ، فعندما التقينا بعد سنوات، وكان قد شق طريقه بقوة في الحياة الأدبية، قال لي في جلسة صفاء، ببساطة وصدق آسرين، إنه قد استفاد كثيراً من ملاحظاتي، والعجيب أنه لم يأت على ذكر فظاظتي في التعبير عن تلك الملاحظات!
أحسب أن كثيرين ممن رثوا الفقيد الدكتور نضال الصالح قد ظلموه، وأحسب أنه هو أيضاً قد حمَّل نفسه فوق طاقتها. فلروحه السلام.