ثقافة وفن

هل يتراجع الأدب؟ السياسة المتوحشة تحاول إلحاق الهزيمة بالقيمة الإنسانية

| ضحى مهنا

من يحاول هزيمة الأدب؟ وهل تدركه قذارة السياسة ولعنة المال؟ لقد تقدمت الأديان السماوية والقوانين الوضعية والآداب والفنون والإعلام والتكنولوجيا الذكية، نعم تقدمت وتقاطعت مع بعضها في مواقع كثيرة، واتفقت على تنظيم أمور البشر بحسب الزمن الذي ظهرت فيه. والأزمان كما هو معروف متحولة وغير ثابتة، يكاد لا يدركها إلا من جعل الإنسان همّه، يدافع عنه في محنه، ويفرح معه إن نجح في سعيه… وقد دعت الأديان والقوانين والآداب إلى تهذيب النفوس وسمّوها وانتزاع ما فيها من سوء يضرّ بها وبمن حولها، لتزهو العدالة والكرامة الإنسانية من دون تمييز أو تعصب أو عنصرية، فيجد كل فرد أو جماعة أو أمة مكاناً تحت الشمس يعيشون في أمان واطمئنان ويبدعون.

فهل وصلت هذه إلى مبتغاها؟ الجواب معروف.

القفز فوق القوانين

لقد أُفرغ كل جميل مما جاءت به الأديان والقوانين والآداب والفنون، وزادوا على تشويهها باستغلالها، فكان التعصب في العقيدة والقفز فوق القوانين وتأويل النصوص الأدبية لينحرف بعضها عن وظيفتها بعد أن أخفقوا في الصدق والأمانة ولا أقول الحياد، فالأدب لا ينحاز إلا للحقيقة التي جعلوا لها وجوهاً متعددة، وهي عادلة حقاً وإن جارحة في وجهها الصريح.

سأخص الآداب والفنون بكلامي اليوم… فقد ظهرت هذه باكراً لحاجة روحية كما تدّل عليها آثار الإنسان القديم وما وصلنا عبر التاريخ. وسبقت الأديان والقوانين التي عرفها الإنسان ونظّم بها حياته بحسب ظروفه وزمانه. ولاحقاً، اختلفت الآراء حول وظيفة الأدب والفنون بدءاً من المتعة والمعرفة ويقظة الوعي، وليس انتهاء بالالتزام بقضايا الوطن وحدها أو الالتزام بالفرد والمجتمع أو من دونه. كانت جريئة جسورة تعتمد على أساليب فنية ومؤثرة بليغة، وصفت مظاهر العنف من فقر وظلم وتخّلف وحقوق مهدورة حتى في مجتمعات يتباهى حكامها بأنهم رعاة الديمقراطية والعدالة، وعبّرت مع هذه المظاهر، عن تطلعات الإنسان إلى الحب وغيره من المشاعر الإنسانية الخالدة. وقد راود الأدباء حلم إصلاح الحياة، لتكون لائقة بالإنسان، فحّرضتْه كثير من النصوص الأدبية على ثورات ليست مسلّحة بالضرورة، فما كانت مآسيه قدراً يستحيل تغييره كما ذهب بعض الأدباء والفنانين، لعلّ البشاعة لا تطغى على جمال الحياة… واعترف كثيرون بهؤلاء الأدباء والفنانين، ونالوا التكريم والتعظيم والجوائز الشهية. لكن لنعترف بأن حال الأدب والفنون كحال الأديان والقوانين لم تصل إلى غاياتها. فما توقفت الحروب وجشع بعض الدول ولا غاب الفقر أو التخلف ولم يهرب الظلم وما عادت الحقوق إلى أصحابها، حتى المظاهرات التي كان يقودها أدباء ومفكرون وفلاسفة باتت هزيلة أعدادها بل نلاحظ أنها توقفت أو تكاد، وتركت المظاهرات وحدها في أكثر البلدان إشعاعاً. إذ أطفأت هذه بعض أنوارها ليزداد التخبط والتدافع والتوحش، إلى أن تقدمت غزة وعلت قضية أهلها المحقة فأحدثت صدمة في العالم، فتدافعت المظاهرات تطالب برفع الظلم عن غزة وأهلها المنكوبين، لعلَّ في هذا الاحتجاج إشارة صحوة ويقظة دائمة بعد التضليل الطويل، فهل يعود النور من دون انقطاع إلى المصابيح التي أُطفئت بسطوة المال والسلاح وتشويه الحقائق؟

الأدب والسياسة

من حاول ويحاول أن يفشل الأديان والقوانين والثقافة؟

أجزم بأنها السياسة المتوحشة هي من تحاول إلحاق الهزيمة بتلك القيم الإنسانية التي تزخر بها الأديان والقوانين والثقافة، ولا تبقي إلا على قشورها العفنة، يساعدها في ذلك المال المفترس الذي لا ينام بعد أن ادعى متغطرساً بأنه لقادر على كل شيء، وحوّل كل جميل إلى سلعة في الحياة بالكذب والتضليل وتسطيح العقول وتشويه الحقائق الناصعة النبيلة، أكتب عن هذا بعد أن تابعت بعض ما يكتب عن تراجع الآداب والفنون، فيرجع أحدهم الأمر إلى المردود المادي الضعيف الذي يجنيه الأدب أو صديقه. وأما الآخر فيردّ الأمر إلى المجتمع المتخلف الذي يعيش بينه الأديب والمثقف، فيتهمه بأنه لا يحترم الثقافة ودورها، وكان هذا قد ادّعى سابقاً بأن تقهقر الأدب والكتابة يعود إلى قمع السلطات وتضييق الحريات بما فيها حرية التعبير… والأخبار الصادقة قالت بأن بعض الأدباء من سابقين ولاحقين لم يفكروا في المال أو يخافوا من سجن أو من متعصب معتوه، وقد عانى كثيرون من القمع المختلف والمجتمع المتخلّف، لكنه تابع الكتابة حتى في السجن وفي المنفى البارد وفي البيت الفقير، يدفع هؤلاء الشغف وحده ليكتبوا ويبدعوا للإنسانية، وما عرف عالم الأدباء أديباً كان يعيش مما يجنيه من الكتابة إلا من ولد في أسرة ثرية، فتفرغ لها وحدها_ وأما الآخرون فكانوا يعملون أعمالاً أخرى في التدريس أو الصحافة أو أعمال لا صلة بالثقافة والأدب، والأسماء معروفة لمن أراد التقّصي. إذاً، ما كانت الحاجة إلى المال يوماً وراء تراجع أديب عن الكتابة، ولا كان القمع على اختلاجه رادعاً ليكسر الأديب أو المثقف قلمه… إنما هي السياسة والمال، وإنْ كنا نستطيع أن نضع بعض الأدباء والكتاب في قفص الاتهام فما كانوا أبرياء تماماً، وقد عرفوا سطوة السياسة والمال، فركضوا نحو المجد والشهرة وهم يمزقون الحقائق ويلحقون بها التشويه، يرمون الصدق وربما أفتى أحدهم لبعض الجهلة بالقتل وهدر الدماء، فخسر هؤلاء الأرواح والأدب ومع هذا كله بقي أدباء صامدون أمام إغراء السياسة والمال لا يبالون إن سقطت كتبهم في مكانها بعد أن صارت هذه سلعة وتجارة وربما تدخل قريباً في البورصة، فقد صار لها إعلام ونقّاد يرفعون هذا ويتجاهلون ذاك وِفْق سياسة مدروسة بعقل بارد وقلب فارغ.

الكتاب والقراء

أجزم وغيري بأن الأدب لن يُهزم وإنْ خذله القراء الذين يرمون التهم على أثمان الكتب. وهذا صحيح بين قوسين وخاصةً في ظّل هذه الحروب المتصلة المتواصلة والعيش الضيّق، ثمّة من يّرد على هذا الادعاء حين كانت أثمان الكتب بأسعار مقبولة وفي متناول الجميع فكانت شهية القراءة ضعيفة في مجتمعنا بعد أن اختطفته الحياة الاستهلاكية وقهرته الدول الكبرى بالحروب والعدوان والحصار. وما عادت تشغله القضايا الإنسانية التي دعا إليها الأدب الرصين ومعه الأديان السامية والقوانين الناصعة. لقد جعلته السياسة القذرة ثم المال اللعين يحصر همّه الوحيد في الطعام والكهرباء والمازوت على أهميتها، ويتسلّى بهذه التكنولوجيا التي تحولت إلى نقمة أو تكاد تقزمها وتهينها وهي تحجب، كما تريد السياسة ويشيع المال، المخاطر التي سقطت وتسقط علينا كالقنابل بعدوانية ينمو في ظلالها العنف والظلم والفساد، فلا يعود المجتمع أو بعضه يتعرف على سبب البليّة ومدبرها، وما عاد بعضهم يكترث إن انتهكت بلادنا أو ضربت بنيران المستعمر وأدواته. أخشى أن يدخل الضعف العقول والقلوب فيغيب الوعي وتنمو الأنانية وتستيقظ الحيوانية المتوحشة التي حاولت الآداب والأديان والقوانين أن تنتزعها وتزرع مكانها التعاطف والمحبة والكرامة والتسامح إلا مع الأشرار.

العيون والضمائر

لن يُهزم الأدب الرصين ولن يتقهقر ما دام هناك أدباء ومثقفون ملتزمون بالحياة يكتبون عنها ويكشفون أسرار الخداع والتشْويه لعل الغشاوة تسقط عن العيون والضمائر والعقول. سيبقى الأدب صامداً لأنه حاجة روحية، ولن تنطفئ شعلة الشغف عند الأدباء الأوفياء، لعلَّ الحقيقة الساطعة تنير نفوس أدباء آخرين فيتراجعون عما أخطأوا عن قصد أو غيره، بعد أن سقطت دعاوى المنافقين في الغرب ومن ردّد وراءهم في مجتمعنا. لن ييئس الأدب وإنْ أصابه خذلان، فقد تقدم طواعية ليكون الشاهد الجريء على ما يراه أو يستشرفه من دون أن يستدعيه أحد لهذه الشهادة، فهذه للناس أجمعين. وبهذا استحق التقدير قول أحدهم بأن الأدب أكثر صدقاً من التاريخ المكتوب أو مما سيكتبه الكتبة المأجورون.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن