هزائم الكيان في سطور
| تحسين حلبي
من الواضح أن قوى الاستعمار البريطانية الأميركية الفرنسية ومعها الألمانية تحاول بذل كل قدراتها لمنع تآكل أو انهيار آخر نظام احتلال استيطاني في تاريخ الاستيطان الأوروبي الأبيض في العالم بعد هزيمة نماذجه في القارة الإفريقية نهاية القرن الماضي، فالكيان الإسرائيلي يمثل آخر أشكال الاحتلال الاستعماري الأوروبي الاستيطاني على أرض فلسطين في العالم، ولا أحد يشك بأن هزيمته كانت مقدرة قبل عقود لكن عدداً من الظروف المتعلقة بالمنطقة ودور ونفوذ القوى الاستعمارية في حمايته جعلت وجوده الاحتلالي الاستيطاني يطول حتى وقتنا هذا برغم أن قوى التحرر العربية القومية من الاستعمار كانت تجابهه منذ عام 1948 وتمكنت من هزيمة مخططه التوسعي الإقليمي ومحاولات تطهيره العرقي للشعب الفلسطيني الذي أصبح عدد أفراده يزيد على سبعة ملايين يقيمون فوق ما بقي من أراضيهم متمسكين بحقوقهم التاريخية والوطنية في فلسطين إلى جانب سبعة ملايين لاجئ، ومنذ حرب حزيران عام 1967 ازدادت حدة وشراسة المجابهة مع هذا الكيان بشكلها الإقليمي والعالمي وبقيت الفصائل الفلسطينية وقوى التحرر في العالم العربي والإسلامي في المنطقة لا تجابه فقط قوة الكيان وحده بل قوة الإمبريالية العالمية الاستعمارية التي صنعته وتمكنت من حمايته بقدراتها الحربية ونظامها الاستعماري العالمي حتى الآن.
لقد تميزت أشكال المجابهة المسلحة كافة منذ حزيران 1967 بحروب شرسة ضد قوى الاستعمار الذي تسببت مشاركته المباشرة وغير المباشرة في حروبه إلى إطالة بقائه، وحالت من دون تحقيق الهزيمة الحاسمة عليه، ومع ذلك ها نحن نشهد مرحلة عملية طوفان الأقصى التي لا تزال مجابهاتها الحربية مستمرة منذ ثمانية أشهر على جبهتي شمال فلسطين وجنوبها وجبهة الضفة الغربية في أطول حرب يومية تخوضها المقاومة الفلسطينية وحلفاؤها في المنطقة ضد الكيان ومن يقف إلى جانبه من القوى الاستعمارية الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة، لكن أحداً لا يجب أن يشك أن الكيان كان يفقد مرحلة تلو أخرى نتيجة المقاومة جزءاً من قدراته وشرعيته بعد كل حرب، ففي حرب تشرين الأول عام 1973 اهتزت قوة الكيان ثقة قادته به بل وثقة حلفائه به أيضاً ودفع ثمناً من ثقته بنفسه حين أجبر رئيس الأركان قائد جيش الاحتلال ديفيد اليعازار ورئيس قسم المخابرات العسكرية إيلي زاعيرا ورئيس الموساد تسفي زامير على الاستقالة وهم أهم ثلاثة قادة إستراتيجيين، ثم أجبرت الهزيمة رئيسة الحكومة غولدا مائير على الاستقالة في نيسان 1974 بعد ستة أشهر على حرب تشرين بسبب تلك الهزيمة، وفي أيلول عام 1983 أعلن رئيس الحكومة مناحيم بيغين في ذلك الوقت فجأة عن استقالته بعد مرور أكثر من سنة على اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان والهزيمة التي تكبدها على يد المقاومة اللبنانية والفلسطينية والجيش السوري إلى أن احتدمت أزمة الحكومة بين وزير الدفاع أرييل شارون في ذلك الوقت وبقية قادة الجيش وأقيل شارون،
وفي تموز 2006 وقعت حرب لبنان الإسرائيلية الثانية وتمكنت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب اللـه وبالدعم السوري من هزيمة الكيان وجيشه وأجبر قائد الجيش رئيس الأركان داني حالوتس على الاستقالة معترفا بالهزيمة ومعه وزير الدفاع عمير بيريتس ثم سقط رئيس الحكومة إيهود أولميرت بعد سنتين بسبب الهزيمة، وفي هذه المرحلة من حرب الإبادة التي يشنها الكيان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والهزيمة التي مني بها جيش الاحتلال وكيانه خلال ثمانية أشهر من صمود الشعب وبطولات المقاومة من الجبهات الداخلية والخارجية، أجبر رئيس الأركان قائد جيش الاحتلال هيرتسي هاليفي على الاعتراف قبل يومين وبمناسبة حرب عام 1948 بالذات بتحمله مسؤولية هزيمة الكيان بموجب ما نشرته صحيفة «هآريتس» الإسرائيلية في 12 أيار الجاري قائلاً أمام جنوده: «إنني أحمل على كتفي في كل يوم حجم مسؤولية الفشل وأدرك ما يعنيه فأنا الذي أرسلت المجندين والمجندات لقتال لم يعودوا منه أحياء كما لم يعد منهم إلى مواقعه كل من أسره الفلسطينيون، وأنا المسؤول عن كل من قتل من الجنود بما في ذلك من قتل عن طريق الخطأ»، وكان من قبله رئيس قسم المخابرات العسكرية أهارون حاليفا قد اعترف في 22 نيسان الماضي بعد خدمة 38 سنة في رسالة استقالته قائلاً: «لم يقم قسم المخابرات تحت مسؤوليتي بالمهمة في هذا السبت الأسود (السابع من تشرين الأول 2023) الذي يطاردني في كل يوم ولذلك قررت الاستقالة من الجيش»، وطالب بتشكيل لجنة تحقيق حول الهزيمة وأسبابها ونتائجها الوخيمة، وفي المقابل ما زال وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يصران على التنكر لمسؤوليتهما في هذه الهزيمة، وكانت الصحف الإسرائيلية قد أشارت إلى انتحار عشرة جنود أمام هول معارك مستوطنات غلاف قطاع غزة في الأيام الأولى للحرب، ولا شك أن هذه الحلقات المتتابعة لهزائم الكيان بدأت تقلق القوى الاستعمارية التي صنعته ولم يعد في مقدورها حمايته وضمان مستقبل وجوده في المنطقة.