قضايا وآراء

«بلوك آوت 24».. العالم يشهد كيف تُغيّر غزة وعي الشعوب

| علي إبراهيم

لا شك بأن الولايات المتحدة الأميركية وماكينتها الإعلامية الضخمة وأذرعها الكبرى الممتدة في كل مكان، حاولت خلال العقود المنصرمة وبشكل خاص مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء الحرب الباردة، السيطرة على العقول وطمس وعي الشعوب ليسعها تحريك الرأي العام في أي مكان بالعالم كيفما تشاء، لكن مجريات الحرب على غزة وما تظهره حتى اليوم، يعطي انطباعاً بأن هذه السيطرة خُرقت وباتت معرضة للانهيار مع بدء تشكل وعي شامل لم يظهر له قادة حتى اليوم بل مبادرون أحرار استخدموا الأسلحة ذاتها فحققوا نجاحات تكتيكية يبنى عليها.

فبعد حملات مقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل في العالم العربي تحديداً والتي لاقت صدى واسعاً، تم إثره إغلاق بعض فروع هذه الشركات وتهديد مصالحها بشكل جدي في المنطقة، انطلقت ثورة الجامعات الأميركية منتصف الشهر الماضي من جامعة كولومبيا دعماً لغزة ومازالت مستمرة في عشرات الجامعات ضمن الولايات المتحدة حتى اليوم، وامتدت لتصل القارة الأوروبية وتجعل من مقاطعة إسرائيل هدفاً رضخت له بعض هذه الجامعات، لتظهر إلى العلن أخيراً حملة جديدة أطلقها تيكتوكر أميركي يدعى «زيك» بعد أن شعر بالاستفزاز من جراء إقامة حفل أزياء «ميت غالا» السنوي في نيويورك والذي شارك فيه عشرات المشاهير الذين تبرع كل منهم بمبلغ وصل إلى 75 ألف دولار لمعهد الأزياء، وهو سعر بطاقة دخول الحفل، فيما لم يتجرأ أي منهم خلال الأشهر الماضية على التعليق بكلمة واحدة أو التعبير عن أسفه أو استنكاره للإبادة الجماعية التي تجري ضد الفلسطينيين في غزة منذ 7 أشهر، فكان هؤلاء المشاهير هدفاً لحملة «بلوك آوت24» وهي حملة مقاطعة دعا لها هذا التيكتوكر وما لبثت أن لاقت انتشاراً واسعاً وتفاعلاً كبيراً لتبدأ حسابات المشاهير بالهبوط ما شكل صدمة لهم وللشارع نفسه الذي شهد على الفور نتيجة قراره بالأرقام.

الحملة وصلت العالم العربي تحت اسم «مقاطعة المشاهير» لتوضع أيضاً قائمة بأسماء المشاهير العرب الذين لم يدعموا غزة على اعتبار أن فلسطين هي قضيتهم الأساسية ولا عذر لمن لا يدعم، ما جعل حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي عرضة لإلغاء المتابعة، الأمر الذي يعتبر في عصر السوشال ميديا بمثابة تدمير لإمبراطورية الشخص المستهدف، وكذلك ضرباً لموارده عبر دفع الشركات المعلنة للإقلاع عن استخدام حساباته كمنصات للإعلان، وبالتالي دفع التطبيقات للحد من حجم المال الذي تدفعه له، وبالنتيجة شكلت الحملتان ملامح ضربة قاسية لشريحة يطلق عليها «النخبة» في العالم ولمصالح شركات متعاملة معها، وبالوقت نفسه يمكن القول إنها بدأت تخلق ثقة لدى المستخدمين بقدرتهم على تكوين مجموعة ضغط بإمكانها التأثير في مجريات العالم.

إحدى الناشطات على تطبيق انستغرام في الولايات المتحدة الأميركية، مهد هذه الحملة، اختصرت الفكرة بالقول: «لن ندفع رواتب هؤلاء بأي حال من الأحوال، لكونهم خيبة أمل لا تصدق، فهم يتحدثون عن حقوق المرأة والأم والحرية في الاختيار، لكنهم لا يؤمنون بهذا حقاً، لأنهم لو فعلوا لتحدثوا عن فلسطين بصوت عالٍ»، ومن هنا يمكن القول إن كل ما يفعله معظم هؤلاء المشاهير مخطط له، ويأتي ضمن سياق ترسمه سياسات كبرى وتستخدمهم أدوات لتسويق أهدافها للشعوب بالاستفادة من تأثيرهم القوي على معجبيهم ومتابعيهم.

ومن الضروري جداً إنصاف المقاومة في غزة التي وضعت في حسبانها قبل إطلاق عملية طوفان الأقصى، أهمية الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وإيمانها بقدرة الشعوب على التغيير، فاستخدمت الصورة والمعلومات أفضل استخدام وعاملت المتلقين لهذه الصورة في العالم على أنهم أذكياء وواعون وقادرون على الحكم بشكل صحيح حول أسباب هذه العملية وما تبعها من انتهاكات إسرائيلية واسعة رأتها الشعوب للمرة الأولى بكل شفافية عبر إعلام المقاومة والقدرات الكبيرة للغزاويين الذين تمكنوا من نقل الواقع بأقل الإمكانات المتوافرة وعبر هواتفهم النقالة.

ومن هذا المنطلق لا يمكن اعتبار حرب غزة حرباً فلسطينية- إسرائيلية فحسب بل هي ثورة على وعي الشعوب النائمة التي رضخت طوال عقود لما تريد الدعاية الأميركية إيصاله للعالم من معلومات، فشوهت صورة من تريد وجعلت من ترغب يبدو كحمل وديع وحضاري، وأنزلت العقوبات القاسية على عدة دول بعد إقناع العالم أنها دول مارقة ومصدرة للإرهاب فحاصرتها وضيقت الخناق على شعوبها وعملت على سحق هوياتها الوطنية المناهضة لما يتم ترويجه من قيم مادية حول العالم، ولا يمكن أيضاً فصل ما يجري في غزة عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي يجيّر زعماء الغرب لمواجهتها إمكانات كبيرة بهدف كسر الهجوم الروسي وتطويق موسكو وبالتالي تطويق الصين وإنهاء مشروعهما المتمثل بإنهاء سياسة القطب الواحد وخلق عالم متعدد الأقطاب قائم على شعوب واعية غير مغيبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن