فراشتان للمبدع اللطيف
| حسن م. يوسف
آلاف من السوريين احتشدوا يوم أول من أمس الجمعة لوداع المخرج السينمائي المبدع عبد اللطيف عبد الحميد في مقبرة قرية البهلولية، مسقط ومصعد رأسه. كنت أقف جانباً أستعرض بقلب ثقيل، الأوقات التي جمعتني بالفقيد منذ عودته إلى دمشق عقب تخرجه في معهد (الفغيك) السينمائي الشهير في موسكو عام 1981، كان العمر ينخطف سريعاً على شاشة الذاكرة عندما اقترب مني الأديب والرسام المبدع عصام حسن وراح يهمس في أذني بأنهم بعد الانتهاء من حفر القبر، شاهدوا فراشتين تنزلان إلى أعماقه، تدوران فيه ثم تخرجان معاً وتحلقان إلى البعيد.
أخي الحبيب اللطيف الحميد، أذكر أنني كنت بجوارك بعد منتصف الليل أثناء قيامك بتصوير مشهد تسلل غسان، عبر المدخنة، للقاء سلمى، في فيلم «رسائل شفهية»، وفجأة مزق السكون العميق هدير دراجة نارية، لحظتها التفتَّ نحوي وقلت لي ضاحكاً: «هذا أوقح اختراع أنتجته البشرية!».
أخي الحبيب اللطيف الحميد سامحني لأنني لن أستطيع الكتابة عن روحك العظيمة الآن في هذا الزحام، والحق أنني لا أرغب في الكتابة عن أي شخص أو موضوع آخر، لكنني، كما تعلم، منذ أن التزمت بمواعيد محددة للكتابة قبل نحو أربعة عقود، قطعت عهداً ألا أسمح لنفسي بعدم الوفاء بالتزامي، مهما بلغت من المرض أو الوهن الجسدي أو النفسي، لذا سأكمل هذا المقال بالكتابة عن مخرج مبدع مثلك، قتله الاختراع الذي وصفته أنت بـالأوقح»، هو المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس الذي فاز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1998 عن فيلمه (الأبدية ويوم واحد).
تعرفت على ثيو أنجيلوبولوس في مهرجان فالنسيا أوخر ثمانينيات القرن الماضي، وقد تمدد فيلمه «سفر الممثلين» في روحي وراح يضغط على كياني من الداخل، لدرجة أنني عندما انتهى عرضه خرجت من الصالة ورحت أعدو في شوارع المدينة، حتى وصلت إلى سور حلبة مصارعة الثيران، فأسندت رأسي إلى جدارها ورحت أنشج بمرارة أنقذتْني! يومها طلبتُ من سكرتير المهرجان أن يرتب لي موعداً مع هذا المخرج العبقري، كي أجري حواراً معه، لكن السكرتير اعتذر قائلاً: إن أنجيلوبولوس يعرف الإنجليزية، لكنه لأسباب مبدئية يرفض التكلم بها، وبما أنني لا أعرف سوى الإنجليزية فقد استوقفت أنجيلوبولوس أثناء خروجه من إحدى الصالات، شددت على يده وبعد أن عرفته على نفسي قلت له بالحرف: «أنا من البلد الذي أهدى بلادك الأبجدية، أريد إجراء حوار معك ولا أعرف سوى الإنجليزية». نظر الرجل إلي متسائلاً باستغراب: « من أي البلاد أنت؟» قلت له: «أنا من بلد الأمير قدموس الذي ذهب إلى بلادكم بحثاً عن شقيقته أوروبا ونقل الأبجدية من الشاطئ السوري إلى بلادكم».
حدق أنجيلوبولوس في وجهي باستغراب ثم أخرج بطاقة من جيبه كتب عليها اسم فندقه ورقم غرفته قائلاً بلهجة عملية «غداً صباحاً من التاسعة حتى التاسعة والنصف». وهذا ما كان.
في الرابع والعشرين من كانون الثاني قبل اثني عشر عاماً كان انجيلوبولوس قد بدأ بتصوير آخر أفلامه «بحر أثينا الآخر» في منطقة درابتسونا في ضواحي أثينا، وأثناء اجتيازه لشارع مزدحم قرب موقع التصوير صدمته دراجة نارية، كان يقودها ضابط شرطة خارج دوامه. فتوفي في المستشفى عن ستة وسبعين عاماً بعد أن أصيب بذبحة قلبية.
صحيح أن أخي اللطيف الحميد لم تصدمه دراجة نارية مثل أنجيلوبولوس لكن ما صدم قلبه وجعله ينفجر هو إحساسه العميق بمعاناة إخوته السوريين.
المجد للمبدعين الكبيرين عبد اللطيف عبد الحميد وثيو أنجيلوبولوس.