قضايا وآراء

بين «الانحياز والحياد الإيجابي».. علاقة «البعث» بالسلطة والمجتمع

| د. مازن جبور

تثير العلاقة بين الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية، الكثير من التساؤلات والتحفظات والتي قد تصل أحياناً حد الاعتراض، وبشكل رئيس من قبل القوى السياسية الأخرى أو حتى من قبل المستقلين، أو مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وتعد سورية واحدة من البلدان التي تتشابك فيها العلاقة وتتداخل حد التماهي في لحظات تاريخية معينية وعند مفاصل سلطوية محددة، بين الحزب الحاكم والحكومة، وهو ما يجعل تلك العلاقة موضع اهتمام ونقاش، إذ يتطلب الغوص فيها، قراءتها بعمق وواقعية بغية تفكيكها وإعادة بناء العلاقة بالشكل الأمثل.

ترتكز التساؤلات والتحفظات حول علاقة الحزب الحاكم بمؤسسات الدولة، على مجموعة من المبررات، وفي مقدمتها المزايا التي يحققها من وجود أعضائه في قيادة المؤسسات الحكومية، مما يعمق ويوثق التداخل بين أجهزة الدولة والبنى التنظيمية للحزب الحاكم، ومن الحق القول إن هناك علاقة غير متوازنة بين حزب البعث العربي الاشتراكي بصفته حزباً حاكماً في سورية، وبين أجهزة الدولة في البلاد، لكن هذا الخلل ليس لمصلحة الحزب الحاكم دائماً، بل إن العلاقة تميل في الوقت ذاته مع وضد كلا الجهتين.

ما سبق يفترض إخضاع العلاقة بين «البعث» والحكومة باستمرار للنقاش والدراسة بقصد التطوير والتحديث، إلا أنه يمكن القول إن عدم الوضوح في تحديد دور كل من الحزب الحاكم ودور السلطة ممثلة بالحكومة وغيرها، من أجهزة الدولة، بالإضافة إلى الانتقال من نظام الحزب القائد إلى نظام التعددية السياسية، قد ساهم في توليد الهواجس والتساؤلات وإبرازها على السطح، كجزء من حوار سوري – سوري واسع وشامل، بدأه الرئيس بشار الأسد، بصفته أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي، ويقتضي الأمر أن تكمله بتدبّر، مؤسسات الدولة وقواها السياسية والاجتماعية كافة وفي مقدمتها حزب البعث، من منطلق أن هدفه ليس مصلحة حزبية فحسب، بل مصلحة وطنية كبرى تطول الجميع.

وانطلاقاً من أهمية هذا الأمر، العلاقة بين الحزب والسلطة، أشار الأمين العام للحزب الرئيس الأسد، باعتبارها نقطة أولى يجب الانطلاق منها، قائلاً: «هذا حوار ثابت يجب أن يبقى دائماً، وتكون له قاعدة فكرية واضحة»، وهنا يركز الرئيس الأسد على سيرورة الحوار، وأهمية ارتكازه إلى قواعد فكرية واضحة، أي ضرورة وضع نظرية ترسم حدود العلاقة بين الحزب والسلطة، تحدد دور كل منهما، ويشير الأمين العام إلى حدود هذه العلاقة بالتأكيد على أن الحالة الطبيعية هي «أن تنبثق سياسات الحكومة من رؤية الحزب، من دون أن يلغي أحدهما الآخر».

إذا المطلوب في الوقت الراهن هو عملية إعادة تموضع لدور الحزب، بما يحمي الحزب من إشكالات العمل الإجرائي اليومي الذي تقوم به الحكومة، لكن إعادة التموضع هنا ليس المقصود بها ابتعاد الحزب عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعي والثقافية في البلاد، بل الابتعاد عنها كمؤسسة حزبية تتابع تفاصيل العمل الحكومي اليومي، والانغماس فيها وفي قيادتها كحزبيين موزعين ضمن أجهزة الدولة، إذ إن ترك أو إبعاد الحزب الحاكم ذي الحاضنة الاجتماعية الأكبر عن السلطة بمختلف تقسيماتها ومستوياتها، مثلما يتخيل للبعض، يعني وضع تلك السلطات في مهب الريح وتوجه مسؤوليها نحو المصالح الشخصية، على حين أن الواجب يقتضي العمل من أجل الوطن كله والمواطنين جميعهم.

وإذا كانت الحالة العامة السورية تظهر سيطرة لـ«البعث» على مفاصل الدولة الرئيسة، فهذه حالة طبيعية قياساً بمجموعة من المعطيات، منها أولاً، نظام الحزب القائد الذي كان سائداً لعقود طويلة وسمح للبعث بتكريس نفسه على الساحة السياسية السورية باعتباره باني سورية الحديثة، وثانياً، أن الأحزاب الكثيرة التي أسست مع صدور قانون الأحزاب ودستور العام 2012 لم تحمل بعد من مقومات التعددية السياسية سوى السمة العددية، وقد يكون مرد ذلك إلى حالة عدم الاستقرار السياسي والعسكري والأمني التي تعيشها البلاد نتيجة الأزمة المستمرة منذ العام 2011 وحتى الوقت الراهن، فبجانب حزب البعث لا يوجد سوى مجموعة من الأحزاب الضعيفة، ونتائج انتخابات مجلس الشعب وانتخابات الإدارة المحلية، تدل على عمق ضعف التجربة الحزبية للأحزاب السياسية المشكلة حديثاً، على حين أن النتائج الانتخابية وخاصة انتخابات الإدارة المحلية الأخيرة، تشير إلى تقدم الكثير من المستقلين في العديد من الدوائر على حساب القوائم التي رشحها حزب البعث، وهو ما أثار لغطاً وحسماً قضائياً بإعادة عملية الاقتراع في عدد من المراكز الانتخابية، ومثال ذلك ما حصل في بلدة دوير رسلان بمحافظة طرطوس.

إذاً، إن متطلبات الإصلاح والتحديث هي الدرس الرئيسي الذي أدركه «البعث»، وأكد عليه الرئيس الأسد، فجاءت كلمته شاملة في افتتاح أعمال اجتماع اللجنة المركزية للحزب، إذ تناول فيها العديد من المفاصل المهمة، وطرح الكثير من العناوين والأسئلة الحساسة، بهدف الحوار فيها وحولها، لإصلاح ما يحتاج لإصلاح وتحديث القديم والاستغناء عما يعطل مسيرة التقدم، معتبراً أن «تأجيل (الإصلاح) ليس هو الخيار الصحيح، بل السير في التطوير بأقصى سرعة هو الخيار، وهو الوسيلة والطريقة، وربما الوحيدة، لمواجهة الظروف الصعبة والتحديات»، وهذا ما يجب أن يكون عنوان المرحلة القادمة بغية العودة بـ«البعث» إلى دوره البارز الذي قاد من خلاله البلاد إلى مستويات مهمة على الصعد كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسعى نحو التأسيس لمشروعات وطنية وقومية كبرى.

إن استعادة مثل هذا الدور يتطلب من حزب البعث أولاً قراءة التطورات الداخلية والخارجية، والتحولات في منظومة القيم والمبادئ التي باتت تحكم المجتمع السوري، ولعل الأهم اختلاف الثقافات الناتجة عن نشوء أجيال سورية جديدة في مجتمعات غير سورية، ومن ثم كيف يمكن استقطاب هؤلاء بأدوات استخدمت في منتصف القرن العشرين، ووسط هذا الكم الهائل في التطور التكنولوجي والمعرفي، ولعل تبرير العزوف عن المشاركة بالفعل السياسي بات أمراً مشكوكاً به، بعد ما شهدته سورية من حراك عام سواء بالمشاركة الفعلية في الانتخابات الحزبية أم بالمشاركة في الحوار الدائر حولها، إذ لم يقتصر الحراك على الحزبيين فقط، بل شمل كل أفراد المجتمع، حتى المقيمين خارج البلاد، إذاً الأمر كان متوقفاً على توجه حزبي نحو استعادة زمام المبادرة، وتفعيل العمل السياسي في البلاد، بعد زمن انقطعت فيه الأحزاب عن العمل السياسي، علماً أنها ظاهرة حداثية مهمتها تنظيم الفعل السياسي.

تقع على عاتق السياسة مهمة خلق التفاعلات بين القوى المختلفة وتحويلها إلى مخرجات سلطوية، وهذا ما يفترض أن تدركه الأحزاب، ومنها حزب البعث، حيث إن نقطة الانطلاق نحو تدارك أسباب تراجع مكانته في المجتمع، ناتج عن حالة الراحة التي خلد إليها بفعل امتلاكه للسلطة من جانب، وعدم وجود منافسين من جانب آخر، واستعادة دوره كمحرك للفعل السياسي، يقتضي منه إعادة النظر في هيكله التنظيمي ودور بناه المختلفة وعلاقتها بالمجتمع وتحولاته من جهة، وبسلطات الدولة من جهة أخرى.

إذ إن حزب البعث لا يزال يعاني من علاقة الترابط الشديد مع أجهزة الدولة ومؤسساتها، ومن هنا جاء تأكيد الرئيس الأسد ضرورة أن يكون للحزب دوره وللحكومة دورها، بما يحمي الحزب من إشكالات العمل الإجرائي اليومي الذي تقوم به الحكومة، وهذا يتطلب فك الارتباط الوثيق بين الحزب والجهاز الإداري للدولة، على أساس قطاعي ووفق خطط زمنية مرحلية، بحيث ينحو الحزب باتجاه أخذ دور يمكن تسميته بـ«الانحياز الإيجابي»، بمعنى التدخل لإيجاد ترتيب سياسي ملائم لشروط العصر الذي نعيش فيه، إزاء مؤسسات وأجهزة الدولة، أي إن الحزب يساند كل هذه المؤسسات وفي الوقت نفسه يراقبها، لكن من دون التدخل في تفاصيل عملها اليومي، بما ينعكس إيجاباً على عملية التنمية، وبالنسبة للمجتمع، فإن إيديولوجية الحزب القومية تجعله قادراً بالفعل على اتخاذ موقف «الحياد الإيجابي» تجاه كل تكوينات المجتمع، من خلال رعايته للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات من دون أن يفرض عليها شيء، بل يسهم في احترام حقوقها وصيانتها، بما لا يضر بوحدة المجتمع، أي بمعنى استقلال الحياة العامة للمجتمع عن شرائع وعقائد أي تكوين مؤلف له.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن