أحدث رواية للكاتبة التشيلية «إيزابيل الليندي»: نساء روحي … تأتي الخسائر مع العمر إذ نفقد الأشخاص والطاقة
| هبة اللـه الغلاييني
الروائية التشيلية (إيزابيل الليندي)، كانت في رواية (باولا)، تحكي عن ابنتها الوحيدة التي اختطفها الموت وهي في عز صباها، بعد أن أصابها مرض غريب المنشأ، وكانت ابنتها مخطوبة في ذلك الحين، فكانت الراوية تروي وقلبها مجروح ويتألم على ابنتها، لتقص لنا بشفافية أدق التفاصيل، حول (باولا)، طفولتها وشبابها وصراعها مع المرض، بقلب أم تتمنى لو جاءتها المنية قبل ابنتها.
أعمال مؤثرة
ثم توالت روايات (إيزابيل الليندي)، من (بيت الأرواح) إلى (ابنة الحظ) إلى (إيفا لونا)، و(صورة عتيقة)، و(سفينة نيرودا) وغيرها من الروايات الطويلة الشيقة.
والآن وهي في عمر الثانية والثمانين تخرج علينا برواية جديدة، فيها خلاصة تجاربها السابقة، وكأنها تكتب مسيرتها الروائية والنسوية.
سيرة روائية
في هذه الرواية تدعونا لمرافقتها في رحلة حميمة بدأت منذ الطفولة، رحلة حياتها الحافلة الصاخبة، لأن برأيها «الحياة الهادئة الآمنة ليست مادة جيدة للخيال». تحكي لنا «إيزابيل الليندي» عن الحب؛ «الذي لا ينبت مثل النبتة البرية، وإنما يغرس بعناية».
وتتذكر هجران أبيها لأمها:
لم يكن هجران أبي استثناء في تشيلي، تعتبر المرأة هي عماد الأسرة والمجتمع، ولاسيما في الطبقة العادلة، حيث يروح الأب ويغدو، ويختفي عن الأنظار في كثير من الأحيان، فلا يذكر أبناءه مرة أخرى. في حين الأم شجرة جذورها راسخة، تتولى مسؤولية أبنائها وأبناء الآخرين لو دعت الضرورة إلى الحد الذي جعل الألسنة تقول إن تشيلي نظام أمومي.
تتحدث الليندي في هذه الرواية عن «النسوية»، تلك القضية التي شغلت بالها، ودافعت عنها دفاعاً شرساً. «رأى جدي العجوز أن بوح النساء بمكنوناتهن هو أمر لا يليق، ولاسيما الشابات في العمر، فربما كان ذلك الرأي لا يهم أحداً، وتلك هي الفئة التي اعتبرها أندرو رأيي في النسوية».
كان تبشيري بالنسوية يدفع جدي للتوتر، وعلى الرغم من ذلك، فلقد احتمل القذائف التي كنت أمطره بها حين أخبره بأننا، نحن النساء، نعاني معاناة مضاعفة بسبب الفقر وغياب الصحة، والتعليم والإتجار بالبشر والحرب والكوارث الطبيعية وانتهاك حقوق الإنسان.
كنت قادرة على الكتابة! شعرت برغبة في كسر مئات المحظورات على صفحات المجلة التي بدأت بالكتابة بها، تلك المحظورات التي تمس المرأة على نحو مباشر: كالجنس والمال والقوانين التمييزية والمخدرات والذرية، وسن اليأس، ووسائل منع الحمل، وإدمان الكحول، والإجهاض، والعار والغيرة وغيرها من المشاكل النسوية. بعقلانية، قليلات هن النساء اللاتي قد يشعرن بالرضى الذي أشعر به عن كوني أنثى، إذ يحتملن ظلماً بلا نهاية، وكأنها لعنة إلهية!!
كما تحكي الكاتبة عن العمر بالنسبة للمرأة « الذي يجري والمرء منغمس في وضع مخططات أخرى».
العمر والمرأة
تقول حول التقدم في العمر، «عند النساء يتضاءل الشغف والحب أو يختفي بالتقدم في العمر، ما لم تقع المرأة في الغرام». من الواضح أن الأمر يختلف لدى الرجال. في موضع ما، قرأت أن الرجال يفكرون في الجنس مرة كل ثلاث دقائق في المتوسط، ويتشبثون بخيالاتهم حتى الموت. إن أي رجل سبعيني أكرش عكر المزاج يشعر بالقدرة على التودد إلى امرأة تصغره بعشرين أو ثلاثين عاماً، أما لو رافقت المرأة رجلاً يصغرها عمراً، فيعد هذا شيئاً بذيئاً.
شيء طبيعي أن تأتي الخسائر مع العمر إذ نفقد الأشخاص والحيوانات والأمان والطاقة التي كانت لا تنضب في ما مضى. حتى السبعين في العمر كان في وسعي الموازنة بين ثلاث أو أربع مهمات في آن واحد، والعمل على مدى أيام، مع الاكتفاء بالحد الأدنى من النوم، والكتابة لعشر ساعات في جلسة واحدة. أما الآن فأجرر نفسي حتى أقوم من الفراش بحرص لئلا أزعج رفيقي والكلبتين. لدي مسؤولية واحدة هي الكتابة، ولا أملك الاستمرار في الكتابة أطول من أربع أو خمس ساعات، الأمر الذي أنجح في إنجازه بالكثير من القهوة وقوة الإرادة.
إن العيش أطول، لا يعني العيش أفضل، بل إن الشيخوخة المرتدة تمثل تكلفة اجتماعية واقتصادية هائلة.
على مستوى الفرد والكواكب.
في ما مضى، كان البلوغ يبدأ في العشرين، والنضج في الأربعين، والشيخوخة في الخمسين. أما اليوم فصارت المراهقة تمتد حتى أواخر الثلاثينيات أو الأربعينيات، في حين يبدأ طور النضج في الستين على وجه التقريب، والشيخوخة في أوائل الثمانينيات».
الحب والعمر المتقدم
أما عن حاجتها إلى الحب والرومانسية، حتى وهي في الثمانينيات تقول «لو علم خليفة بغداد أن ما نريده، نحن النساء، هو الحب قبل كل شيء، لراق له ذلك. في أدمغتنا شيء غريب، ضرب من الأورام، يدفعنا إلى الحب دفعاً. من دون حب، لا نملك العيش، في سبيل الحب، نحتمل صغارنا، ونتحمل الرجال. بل إن تفانينا يكاد يكون شكلاً من أشكال المخدومية. هل انتبهتم إلى الفردانية والأنانية اللتين تعتبران من سمات الرجال الحميدة، ومن عيوب النساء؟ نحن نخضع ونضحي بأنفسنا في سبيل الحب، الأمر الذي يبدو في غاية النبل. فكلما زدنا شقاء بالحب، زدنا نبلاً. إن الثقافة تبجل الحب على اعتباره أسمى الأشياء، فنقع طوعاً في ذلك الشرك اللذيذ، بسبب الورم الذي في أدمغتنا، نحن النساء. ولا أستثني من ذلك نفسي، بل إن الورم الذي أصابني هو من أشد الأورام خبثاً.
زواج في السبعين
لذلك ارتبطت (إيزابيل الليندي) بزوجها الأخير (روجر) وهي في السبعين من عمرها، وحضر العرس أبناؤهما وأحفادهما الذين كانوا مسرورين جداً وسعداء بارتباطهما، الذي يعني أنهم ليسوا مضطرين إلى الاعتناء بهما، فكلاهما سوف يعتني بالآخر.
أمرّ حالياً بفترة في غاية السعادة. والسعادة ليست صارخة ولا صاخبة، كالبهجة واللذة، بل صامتة، هادئة، ناعمة، إنها حالة داخلية من حالات الرفاهية، تبدأ بحبي لنفسي. أنا حرة، ولا يجب علي أن أثبت شيئاً لأحد، كائناً من كان، ولست مضطرة إلى العناية بالأبناء، أو الأحفاد، فكلهم ناضج، مكتف بنفسه. لقد «وفيت» على نحو ما كانت جدتي ستقوله، وحققت أكثر من المتوقع بكثير.
هذا ما ختمت به الكاتبة العالمية سيرتها، ولا نعلم متى سنحظى منها برواية جديدة بعد أن جاوزت الثانية والثمانين؟