قضايا وآراء

بوتين في بكين.. لأبعد من «شراكة النفط»

| عبد المنعم علي عيسى

قبيل أن يشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رحاله إلى بكين الأسبوع الماضي، كان قد أجرى مقابلة قصيرة مع وكالة «شينخوا» الصينية وفيها قال: إن «حجم التجارة بين البلدين ارتفع من 111 مليار دولار عام 2019 إلى 227.8 مليار دولار عام 2023»، ولربما كان هذا القول الأخير مؤشراً على وجود مسعى روسي لزيادة حجم ذلك التبادل الذي ظل، حتى في حده الثاني، دون المأمول قياسا لمؤشرات التبادل التجاري الصيني مع دول أخرى مثل أستراليا التي سجل مؤشرها لعام 2023 تبادلاً عند 316 مليار دولار برغم أن «المشتركات» التي تجمع ما بينهما، أي بين الصين وأستراليا، هي أقل بكثير مما يجمع بين الأولى وروسيا، فكيف والأمر إذا ما كانت مرامي البلدين تجمعهما عند حد كسر الهيمنة الأميركية على العالم وإنتاج نظام تعددي لا يزال بعيداً، كما يبدو، على الرغم من تنامي شرطيه الموضوعي والذاتي بدءا من هذه الألفية التي شهدت «إعلان شنغهاي 2005» الداعي لعالم «متعدد الأقطاب»، إلا أن العديد من العثرات حالت دون وضع تلك الدعوة قيد التنفيذ، وإن كان ذلك لم يحل ما بين «الداعين» ودعواهم التي ظل العمل جارياً على تحقيقها، لكن مع يقين بات ثابتا يشي بأن المخاض لا يزال طويلاً.

من جهة أخرى يمكن لحظ أن الزيارة حدثت في ظل مناخات كانت لها دلالاتها، إذ إن ثمة مؤشرات كانت تلوح من بعيد، على الضفة الروسية، وهي توحي بأن ثمة عقبات تعترض حشد الموارد المالية لجهود الحرب التي من الصعب تحديد الوقت الذي سيعلن فيه عن صمت المدافع واللجوء إلى طاولات التفاوض، صحيح أن ذلك لا يظهر تماماً على لوحة الاقتصاد الروسي الذي أعطى مؤشرات نمو إيجابية خلال أشهر الحرب الـ28 السابقة، لكن استبعاد وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو ليحل محله التكنوقراطي أندريه بيلوسوف، الذي جاء في ذروة الانتصارات التكتيكية في دونباس وخاركيف، يعطي ملمحا يشير إلى أن ثمة عطباً يعانيه اقتصاد الحرب، ولذا كان القرار بمعالجة ذلك العطب على قاعدة تقول: إن الانتصارات التكتيكية التي يسجلها الميدان يجب ألا تكون بديلاً للحسابات الإستراتيجية بعيدة المدى، وخصوصاً أن رقعة النار قد تتسع مما يشير إليه العديد من المواقف الأوروبية الحاصلة مؤخراً، وعليه فإن الزيارة في عمقها ترمي إلى ترميم الثغرات التي تكشفت في اقتصاد الحرب دفع بهذا الأخير لكي يحقق النتائج المرجوة منه على المديين المتوسط والبعيد، والراجح هنا، وفق مؤشرات، أن بكين قد تريثت في طلب موسكو الساعي لتحقيق قفزات نوعية تتناسب والمشتركات آنفة الذكر، ومن المؤكد أن التريث الصيني مبرر انطلاقا من معطيين اثنين، أولهما أن بكين لا تريد استفزاز الغرب بدرجة تؤثر على علاقتها المتوترة به، وثانيهما أن آلية صنع القرار السياسي في بكين لا تزال في وضعية يصعب معها التناغم مع الجموح الروسي، لكن اللافت هنا هو أن بكين كانت قد استبقت زيارة بوتين بإجراء سلسلة من الترفيعات والإقالات التي هدفت من ورائها إلى تهدئة مخاوف موسكو السابقة في مؤشر يريد القول: إن التناغم يجب أن يكون تدريجياً وليس قفزاً.

كانت الزيارة التي سعى الرئيس الروسي من خلالها إلى «شراكة بلا حدود» مع الصين تحت رادارات الغرب ووسائل مراقبته، والمؤكد هو أن كل جملة قيلت فيها، وكل حركة، سوف يجري تحليلها وتتبع مآلاتها، وبمعنى آخر فإن المهم عند هذا الأخير هو اتضاح المعادلة التي تربط ما بين القول والتنفيذ، وإذا ما كانت التصريحات الصادرة عن الرئيسين، الصيني والروسي، تشي بدرجة عالية من الانسجام، إلا أن «غرام» الغرب هو في التفاصيل التي قد تكون عندها غاية الغايات التي تصبح لازمة لتحديد الخيارات وما استجد عليها، وما وصل إلى الغرب بخصوص هذه الأخيرة يشي بأن هامش التلاقي الروسي الصيني لا يزال عند نقاط غير خطرة، أو أن بكين لم تتجاوز بعد «المحظور» الغربي، ومن الممكن تلمس ذلك بوضوح عبر ما قاله المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بشأن «الصورة» المرتسمة في واشنطن بعيد القمة الصينية الروسية التي علق عليها بالقول إنها «لم تحمل مؤشرات على حصوله (يقصد بوتين) على دعم إضافي كبير»، وأضاف: «لم نر أي أمر مفاجئ بالنسبة لنا خلال هذا الاجتماع»، لكنه استدرك بالقول: «لن أقول إننا غير قلقين من هذه العلاقة، وإلى أين تمضي».

القلق الأميركي هنا ناتج عن رؤية مفادها أن الحرب الأوكرانية قد دخلت منعطفا استراتيجياً ولربما يكون حاسما، وإذا ما سقطت خاركيف تماما بيد الجيش الروسي فلسوف يكون من الصعب تخيل سيناريو يمكن له أن يؤدي إلى انقلاب جديد في موازين القوى أيا يكن الدعم الغربي المقدم لكييف، والراجح هنا أن مرد الإخفاقات العسكرية الأوكرانية الأخيرة يعود إلى ما هو أبعد من نقص الدعم والإمداد الغربيين، فطول أمد الحرب من شأنه أن يفعل من تأثير الفوارق في الجغرافيا والديموغرافيا بين طرفي الصراع، الأمر الذي راحت مفاعيله تظهر بعد مرور نحو ثلاثين شهرا على بدء الحرب، ولربما يدفع ذلك السقوط، أي سقوط خاركيف، بالغرب إلى مراجعة حساباته ومنح كييف «رخصة» التفاوض مع موسكو قبيل أن تشهد الجبهات انهيارات أخرى ستكون لها أكلافها، ولذا إذا ما ارتفع منسوب الإسناد الصيني لموسكو سوف يضيق الوقت لتدارك هزيمة ستكون لها تداعياتها على امتداد القارة الأوروبية، وعلى نظام دولي راح يبدي استعداده للتفكك، لكن ما يضعف ذلك الاستعداد هو أن النظام البديل لم تتكامل شروطه بعد، وفعل «الولادة» لا يزال عصياً.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن