بين ما يسمى معاداة السامية واستعمار الشعوب باسمها
| تحسين حلبي
عملية طوفان الأقصى لم ينتج عنها زعزعة لثقة الكيان بنفسه وبقدراته على الصمود فقط، بل تزعزعت بسببه كل سرديات الشعار الاستعماري الصهيوني الذي ابتكرته له القوى الاستعمارية، وهو «معاداة السامية»، فلكي تحقق أهدافها في فلسطين والعالم أعدت واشنطن شعاراً يسمى حظر «معاداة السامية» واستخدمته كسلاح أرادت بوساطة فرضه، منع وردع العالم كله وليس الشعب الفلسطيني وحده عن التصدي ومقاومة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وأعدت من هذا الشعار صيغاً متعددة على الساحة العالمية لكي تصفي أي مطالبة عادلة بحقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته ولكي تمنع عنه كل أشكال الدعم والتأييد الطبيعية والإنسانية والسياسية في العالم.
وربما شكلت زعزعة وتدمير هذا الشعار الاستعماري أهم نتيجة تحققت على ساحة الرأي العام والوعي في العالم، ولذلك لاحظت الولايات المتحدة الأميركية والغرب كله هذا الانهيار لسلاحهم المزعوم وقررت إعادة بث الحياة فيه بفرض قوانين جديدة تدعم استمرار وجوده والمحافظة على صلاحيته، فقد نشر مركز أبحاث «مايزيس واير – الأوروبي» في 14 أيار الجاري دراسة بعنوان «هيستيريا الحرب في غزة تولد استهدافاً جديداً لحرية التعبير» يكشف فيها رايان ماكميكان أن «الولايات المتحدة سارعت في شهر نيسان الماضي إلى تشريع قانون باسم (التوعية من معاداة السامية)، وسوف يصدره الكونغرس قريباً ويقضي بإعطاء الأوامر لجميع المؤسسات البيروقراطية الفدرالية بتبني تعريف واسع متشدد لأشكال معاداة السامية واستخدامه لتعزيز أهدافه المطلوبة»، وتضيف الدراسة إن «التعريف الجديد سيجعل كل من يوجه نقداً لإسرائيل أو يحتج على سياساتها معادياً لليهود أينما كانوا»، ويرى ماكميكان في دراسته أن «هذا التعريف سيستغل بشكل تعد فيه نصوص في إنجيل يوحنا معادية لليهود ووصفهم بأعداء للمسيح أي أعداء الرب».
لا شك أن مثل هذه الاستنتاجات ستنتقل للتطرق لنصوص دينية مسيحية وإسلامية تتحدث عن اليهود وأعمالهم بسلبية انتقاد، فيتعرض أصحابها للاتهام بمعاداة السامية، وهو ما سوف يولد حرباً ثقافية تاريخية ضد معظم شعوب العالم لأن الولايات المتحدة تسعى إلى فبركة وعي خاص تريد فرضه على الساحة الثقافية والدينية والسياسية باسم قانون «التوعية من معاداة السامية»!
السؤال الذي يفرض نفسه في وضع كهذا هو: هل ستنجح واشنطن في تغيير وعي وتاريخ هذا العالم لمصلحة ما لا يزيد على 16 مليوناً من الجاليات اليهودية في العالم؟ وهل ستجبر الدول على تغيير ثقافات ووعي شعوب العالم برغم أن هذه الثقافات وأشكالها ومضامين وعيها لا تقبل بالتمييز والعنصرية وليست بحاجة للولايات المتحدة في تحديد أشكال ومخاطر العنصرية وجميع أشكال التمييز غير الإنسانية، فكل ثقافات العالم تستند الآن إلى مواثيق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي إلا الكيان الإسرائيلي الذي يعد كل رأي عام ينتقد احتلاله وعنصريته معادياً باسم «تعريف معاداة السامية»، والكل يدرك أن الولايات المتحدة كانت تشن وتدعم الحروب والتمييز والعنصرية في كل قارات العالم للاستئثار بثروات الشعوب والهيمنة على مستقبلها، وهي لهذه الأسباب ستعد كل تنديد بالسياسات العنصرية الإسرائيلية معادياً لها ويلحق الأضرار في مصالحها، وهي الدولة التي أقامت أفضل العلاقات مع كل الحكومات الدكتاتورية في العالم من حكام عدد من دول أميركا اللاتينية إلى حكام عدد من دول آسيا وإفريقيا، كما أنها بالمقابل كانت تعمل على حصار وتفتيت قدرات كل الدول المستقلة المناهضة للعنصرية والاحتلال في العالم، لكنها في هذه الظروف التي يتصاعد فيها دور روسيا الاتحادية والصين الشعبية ومناهضتهما للهيمنة والعنصرية الأميركية، بدأت تفقد جزءاً كبيراً من قوة تأثيرها في العالم وأصبحت تعد نفسها منتصرة إذا حافظت على منع تدهور علاقات دول كثيرة معها، بل إنها أصبحت لا تتحكم إلا في الدول التي انتصرت عليها في الحرب العالمية الثانية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وإيطاليا، وهي دول لا تتحكم بقراراتها المستقلة وتتبنى المواقف الأميركية حتى في قمع شعوبها، على حين تتمتع دول صغيرة مثل فيتنام والجمهورية الإسلامية الإيرانية والبرازيل والعراق وكوبا وجنوب إفريقيا وسورية واليمن باستقلالها الحقيقي ولا تستطيع واشنطن فرض قراراتها عليها، وهذا ما يعد انتصارا على مخططها الاستعماري، ولذلك يعتقد المفكر السياسي الأميركي جون ميرشايمير أن واشنطن ستفقد معظم نفوذها وقدرتها على الهيمنة خلال السنوات الخمس المقبلة في عالم متعدد الأقطاب أصبح في منتصف الطريق.