أم كلثوم.. وكفى..
| إسماعيل مروة
مثلت أم كلثوم ظاهرة غنائية وطربية ووجدانية لا تتكرر في غنائنا العربي، وإذا ما أضفنا إليها البعد الوطني كانت أم كلثوم ظاهرة وطنية وقومية وعربية بامتياز، ولا يمكن أن يصل إلى مستواها أحد، سواء ممن عاشوا معها وأدركوا عهد ثورة يوليو، أو أولئك الذين صنعتهم ثورة يوليو وولدوا فنياً معها، أو الذين جاؤوا وترسموا خطاها وخطوات من شاركها الزمن.
سبقت أم كلثوم الثورة بعمر وغنت في حضرة الملكية، وحين جاءت الثورة كانت وعبد الوهاب قد تجاوزت مراحل عديدة من مراحل بناء الفنان، ولكن ذكاء القائمين على الثورة لم يشأ أن يتجاوز أم كلثوم، ولم يتجاوز العبقرية الغنائية والموسيقية للعملاق عبد الوهاب، ولم يعملوا على إذكاء نار التنافس بينهما وبين الذين تفجرت مواهبهم مع الثورة، بل أخذوا على عواتقهم إقامة جسور من الود والحب بما يفيد الفن والثورة معاً.. وأم كلثوم التي تجاوزت مع القصبجي وزكريا أحمد وبيرم التونسي وأحمد شوقي كل الحدود والآفاق، كانت بذكائها مع السنباطي ومن شهد المرحلتين قادرة على التعامل مع الشباب كتاباً وملحنين، فأنتجت روائعها التي ما تزال شاهدة وحاضرة مع هؤلاء الشباب.
بالأمس كانت نثرات من ذهب الزمان، وتسجيلات عثمان حناوي النادرة، وتحريض هيام حموي البارعة تستعرض مسيرة السيدة أم كلثوم، وأمام ذكاء هيام ودهشتها كان عثمان يقدم النادرة تلو النادرة، فسمعنا أم كلثوم تلقي خطبة عصماء بليغة بحضرة مجلس قيادة الثورة، وتقدم جولة أفق سياسية قادرة على دفع الدم في شرايين المقاتلين الذين هدتهم الهزيمة والنكسة، وسمعنا عن جولاتها من أجل المجهود الحربي في كل الوطن العربي وباريس، وهي أم كلثوم، وما أدراك ما أم كلثوم!!
وضعت نفسها وجهدها وحنجرتها وكل طاقاتها لبناء جيش مصر بعد الانهيار، فكانت تغني في أي مكان وفي أي زمان، والعائد للمجهود الحربي والإعمار له، لتضرب مثلاً مهماً في التفاني الحقيقي من أجل الوطن، ولم تكن جهودها إعلامية فقط، ولم تقدم إعلاماً وتقتنص الفوائد الكبرى، كانت مصرية حقيقية، عربية أصيلة، مقاتلة فريدة، مجروحة حدّ الألم..!
إنها أم كلثوم المتواضعة الجميلة التي عندما سئلت لم تمتدح السميعة كما يطلق عليهم، ولم تذكر كبار القوم والمجتمع الذين يستمعون إليها، بل قالت: لا أعرف جمهوري، ولا أحسب حساب أحد، ولا أراقب انطباع أحد، وذكرت أنه بإحصائية دقيقة وجدت أن أغلب جمهورها من الشباب بين العشرين والخامسة والعشرين، وكم كانت لطيفة وهي تذكر أن الشباب يجلسون للاستماع وأيديهم على الخدّ، وختمت: عندنا بيرجع الإنسان إلى أصله! أليست شهادة للشباب؟! أليست اعترافاً بأن الشباب لا يقلون عن الكبار التزاماً واعترافاً بالأصل، بل يزيد هؤلاء الشباب بالمعرفة والاطلاع.. وأمام الموجات التي لا تنكر الراقصة والخفيفة وما شابه، ألا نجد الشباب اليوم- إن دربناهم- مع الغناء الطربي والراقي، والوطني السامي؟! أين نحن اليوم من إرساء أصالة «مصر تتحدث عن نفسها» لحافظ إبراهيم، و«سورية يا حبيبتي» لمحمد سلمان ونجاح سلام ومحمد جمال؟
الشباب ليسوا عديمي القدرة على التواصل مع عالم أم كلثوم، وأذكر أن أول مرة سمعتها كانت في رائعة نزار قباني (أصبح عندي الآن بندقية).
وبعد مدة كان أخي الأكبر يستمع إلى أغنية (أغداً ألقاك) في أول بث لها، ولكنني صرت أغيظه وأقطع عليه سماعه، فلم أنسجم مع هذا الترداد الطويل، فأمسكني وأجبرني على أن أجلس إلى جواره صامتاً، ولم أجرؤ على الحركة، فاستعذبت عبارة (هذه الدنيا كتاب)، وبسبب التقنيات المتواضعة كان يسجل الحفلة ليستعيدها بينما تصل الأسطوانات، ووجدتني أطلب من أن يسمعني الأغنية الفصيحة مرات ومرات حتى حفظتها، وحين ملَّ مني عرف ما أريد وجاء بكاسيت (جددت حبك) وقدمه حتى وصل إلى المقطع الانفعالي (إنت النعيم والهنا، إنت العذاب والضنى) فاستعذبت تلك الجملة الشبابية الطربية، وصرت أشاركه جلساته في السماع للروائع في الحفلات المباشرة من شم النسيم والمناسبات، وسمعت معه: «فاتت جنبنا» و«أي دمعة حزن» لعبد الحليم، و«حكم علينا الهوى» لأم كلثوم والتي لم تشأ الظروف أن تقدم جماهيرياً، وكل ده كان ليه لعبد الوهاب..
تصرف بسيط جمعني بأم كلثوم، وما أزال إلى اليوم لا أراها مخدراً ولا أفيوناً، وإنما ظاهرة شبابية وبامتياز، ولكن شتان بين أن تجد معلماً وأن تفتقده.. ومنذ ذلك اليوم ارتبطت أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وفايدة كامل وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة ونجاح سلام «بدي عريس» وحتى سميرة توفيق «هل عجزت اليوم أن تحيي جمال» ارتبط جميع هؤلاء مع فريد الأطرش «بساط الريح» بحالة وجدانية فكرية وطنية عالية المستوى، ولم يقتصر وجودهم على الطرب وحده، وصارت الكلمة تعنيني بشكل كبير، وجمعت كل ما يمكن من هذه المرحلة، ومع ارتباطي بالحياة المعاصرة إلا أنني أرى «البندقية» لأم كلثوم أهم أغنية وطنية، و«صورة» و«السد العالي» لعبد الحليم أعذب الغناء الوطني و«الوطن الأكبر» لعبد الوهاب و«بساط الريح» لفريد الأطرش مثال الغناء النبيل لوطن عربي كبير..
أم كلثوم في ذكراها لأربعة عقود كانت سيدة الغناء، وتبقى السيدة التي لا تجارى نبلاً وغناء ومواطنة.. شكراً لمن أسمعنا نوادرها الوطنية وخطاباتها، والرجاء أن تعاد كثيراً لما لها من أثر، وما في ذلك من إمكانية لترسيخها وإحيائها من جديد.