أجدادنا يكتشفون أميركا
| حسن م. يوسف
قبل نحو ربع قرن أثار اهتمامي كتاب عنوانه: «الفينيقيون وأميركا، فصول شغلت العالم» ترجمة وتحقيق الدكتور عبد اللـه الحلو وهو كتاب يقع في 224 صفحة من القطع الكبير، صدرت طبعته الأولى عام 1991 عن دار فكر للأبحاث والنشر في بيروت. يضم الكتاب بين دفتيه مجموعة دراسات لعدد من أبرز المؤرخين والباحثين الذين تناولوا اكتشاف الفينيقيين لأميركا قبل التاريخ الميلادي أي قبل إبحار كريستوف كولومبوس إليها بنحو ألفي سنة.
أعترف أن هذا الموضوع كان يخطر ببالي كلما جلست لكتابة هذا المقال الأسبوعي، إلا أنني في كل مرة كنت أرجئه لسبب ما. ومع أنني أجد نفسي اليوم موزعاً بين عدة موضوعات مهمة أود الكتابة عنها، إلا أن قضية اكتشاف الفينيقيين لأميركا تفرض نفسها عليَّ اليوم لأنني علمت مؤخراً أن السفينة الفينيقية التي بُنيت في جزيرة أرواد السورية عام 2007، قد نجحت في عبور المحيط وقطعت أكثر من أحد عشر ألف كيلومتر، خلال خمسة أشهر، ووصلت إلى أميركا بسلام.
المهم في الأمر هو أن بناة السفن في أرواد قد صنعوا هذه السفينة من خشب الأرز وفق المعايير والأسس القديمة التي تم التوصل إليها من خلال حطام سفينة فينيقية، اكتشفت في البحر الأبيض المتوسط في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
بدأت هذه السفينة رحلتها من ميناء قرطاج بتونس في 28 أيلول 2019. وعبرت المحيط الأطلسي باستخدام الأشرعة بظروف مطابقة لظروف البحارة القدماء، وهي ترسو اليوم في نادي كورال ريدج لليخوت في مدينة فورت لودرديل، بولاية فلوريدا الأميركية.
بُنيت هذه السفينة السورية بدعم من مركز البحوث الفينيقية الدولي ومقره أميركا، والهدف من هذه الرحلة إثبات فرضية أن السفن الفينيقية كان بوسعها عبور المحيط الأطلسي منذ أكثر من ألفي عام، أي قبل أن يولد أجدادُ أجدادِ كريستوف كولومبوس.
أهمية هذه الرحلة تنبع من أنها تمت بظروف بحارة العالم القديم، ما يؤكد بشكل علمي لا يرقى إليه الشك، مصداقية المكتشفات التاريخية التي تثبت أن بحارة هذه المنطقة من العالم قد وصلوا إلى ما يدعى العالم الجديد قبل أكثر من ألفي عام، وهو ما سبق لعلماء الآثار أن أكدوه، إذ تم العثور على قطع من العملة القرطاجية، تعود لسنة 330 قبل الميلاد على جزر الأزور الواقعة شمال المحيط الأطلسي على بعد 1360 كم إلى الغرب من البر الرئيسي لجمهورية البرتغال. وقد وثق العالم هيننغ هذا الاكتشاف في كتاب له صدر عام 1944.
إلا أن أهم وثيقة تاريخية تثبت وصول أجدادنا من أبناء المتوسط إلى تلك القارة الأميركية، هي نقش حجر بارايبا الذي وجده أحد العبيد عام 1873 في أثناء عمله في أرض سيده بمنطقة بوزو آلتو بالبرازيل، وهذه ترجمة له: «نحن أبناء كنعان من مدينة صيدون، المملكة التي تمارس التجارة. لقد قُذِفَ بنا إلى هذه السواحل البعيدة ذات الأراضي الجبلية وتُركنا لأنفسنا نمتحَن من العليّ والعليّة، في السنة التاسعة عشرة لاعتلاء ملكنا حيرام العرش… اتخذنا طريقنا من عصيون جبر، عبر البحر الأحمر وانطلقنا بعشر سفن. مضى علينا في البحر مع بعضنا سنتان كاملتان كنا خلالهما ندور الأرض الحار منها، والمعزول على يد بعل. وتكاتفنا مع بعضنا دائماً حيث كنا، وهكذا أتينا إلى هنا، اثنا عشر رجلا وثلاث نساء… فليكن العلي والعلية رحماء بنا».
صحيح أن رحلة السفينة الفينيقية الناجحة إلى أميركا قد تمت منذ نحو خمس سنوات، وهذه فترة طويلة نسبياً، لكن ما يدعوني للكتابة عنها الآن هو أن قصتها المدهشة مرت من دون أن يكتب عنها أحد!