نكسة حزيران جعلتها رمزاً للنهوض من الهزيمة .. أم كلثوم.. كانت سفيرة الفن العربي في العالم وساهمت بفنها في قضايا الوطن والإنسان
| وائل العدس
تقف «الست» مرفوعة الهامة بجبين شامخ إلى السماء، يترنح منديلها الوردي متمايلاً بين يديها على أنغام صوتها العذب، تقدم قدماً عن الأخرى وتضرب بإحداهما الأرض بخفة حينما تتجلى وتنسجم مع مقطوعة من مقطوعاتها الساحرة.
تراها دوماً محتشمة، أنيقة، متميزة بتسريحة شعر منمقة، حنجرة تبعد دوماً عن المايكروفون بأمتار في تحدٍ مبهر لقوة صوتها وعذوبته، حتى نظارتها السوداء التي استخدمتها ستاراً لجحوظ عينيها إثر مرضها بالغدة الدرقية أضفت عليها شموخاً وعظمة.
من فلاحة بسيطة في إحدى القرى الريفية إلى سيدة الغناء العربي، رحلة مملوءة بالكفاح والإصرار على التفوق حتى آخر العمر، وفي وسط الحروب والصراعات والملوك والبسطاء غنت أم كلثوم لمجد الجميع ولرفعتهم وأنشدت ما اهتزت له مشاعر العرب من المحيط إلى الخليج.
«كوكب الشرق».. هكذا عرفها الملايين على مدى نصف قرن من العطاء المتواصل والنجاح الباهر بصوتها الرنان وأدائها الفتّان وتعبيرها الأخاذ بأحب ما تغنى به الناس من كلمات وألحان.
41 عاماً مرت على رحيل أم كلثوم ومازلنا نحتفل بها لأنها تمثل «شهيق وزفير» الغناء العربي، فقد غنت لرفعة الموسيقا ولم تسع وراء الأموال، لذا بقي صوتها على قيد الحياة، وقد عرف عنها شخصيتها القوية واحترامها لنفسها ولفنها فاحترمها الملوك والزعماء كما احترمها عامة الشعب وأحبها الناس في كل مكان، وتفردت بمكانة عالية في الفن والمجتمع لم تصل إليها أي مطربة في الشرق.
بين البداية والنهاية
بين الثلاثين من كانون الأول عام 1904 والرابع من أيار1890، تضاربت الأقوال حول تاريخ الميلاد، حين ولد صوت جميل قوي نادر بقرية صغيرة في محافظة الدقهلية. إنها فاطمة إبراهيم البلتاجي التي عرفت فيما بعد باسم أم كلثوم في قرية صغيرة قرب مدينة المنصورة تسمى طماي الزهايرة، ولم يكن أحد يتوقع مستقبلاً يذكر لطفلة من أسرة فقيرة تقطن بقرية صغيرة ليس فيها مدرسة واحدة.
امتلكت صوتاً جميلاً وغنت أول مرة وهي في الثانية عشرة من عمرها في منزل شيخ القرية ثم عمدتها حيث شدت بالقصائد والموشحات، واشتهرت منذ صغرها بجمال صوتها حيث كانت تردد أناشيد أبيها وأخيها خالد وشجعها والدها وأصدقاؤه على تكرار الغناء واصطحبها معه في حفلاته فجابت معه قرى ومدن ومحافظات مصر.
التقت الشيخ أبوالعلا محمد في المحلة الكبرى وتتلمذت على يديه في الغناء، غنت للملحن أحمد صبري أولى أغنياتها «مالي فتنت بلحظك الفتان» ثم ظهر الشاعر أحمد رامي فكتب لها أغانيها منذ عام 1924 حتى آخر لحظة في حياتها، فقدم لها ما يزيد على مئتي أغنية، وجاء الملحن رياض السنباطي ليلحن لها أروع أغانيها مثل رباعيات الخيام، الأطلال، ولد الهدى، عودت عيني، لسه فاكر، يا ظالمني، هجرتك.
كان لظهور الملحن محمد القصبجي أثر كبير في تنوع الشكل الغنائي لأم كلثوم، فقدم لها ألحاناً كانت أغلبها للشاعر بيرم التونسي منها «هو صحيح الهوى غلاب»، «أنا في انتظارك»، «الفوازير»، و«النيل»، وجاء الملحن زكريا أحمد ليقدم لها ألحاناً لأغنيات عاطفية منها أغنيات أفلامها وبذلك عاشت أم كلثوم عصراً ذهبياً لوجود عدد كبير من المؤلفين والملحنين الذين قدموا لها أجمل الألحان.
في عام 1925 سجلت أم كلثوم أغانيها على أسطوانات، وغيرت التخت الشرقي من «المعممين» إلى «المطربشين» من أمهر العازفين، وأطلق عليها محمد فتحي الشهير بكروان الإذاعة، لقب «كوكب الشرق» وتزوجت أم كلثوم من الدكتور حسن الحفناوي عام 1947.
حب وزواج
أخذت أم كلثوم تُحارب أمراض جسدها التي أكلتها أكل الذئب للفريسة بعد جوع، وتتحايل على الطب والأطباء خشية أن تتعرض لخطر يُدهمها ويقضي على طموحها القوي في الوصول للهدف المرجو، ألا وهو الشهرة والبقاء على قيد المسيرة الفنية، والطريق الغنائي الشهير، حتى وافتها المنية.
تزوجت بأمر من طبيبها المُعالج، فقد تزوجها لإنقاذها من الافتراس الذي وقعت فيه حد الموت، بعدما اغتالها المرض المُزمن الذي أخذ ينهش في جسدها، ويُدمر صحتها ويتوغل في عُنقها، فكادت تقتلها ضغوط «الهرمونات»، تلك التي أودت بها إلى الهلاك، وأجبرتها على الزواج من طبيبها؛ أملاً في أن تحظى بالشفاء العاجل.
أحبها بعد الزواج، وأعطاها من الاهتمام ما لم تكن لتحظى به لو أنها ظلت في مستشفى طوال حياتها، فأخذ يرعاها كأنها ابنته وليست زوجته، ليُحافظ على بقاء نوعها الفريد.
لم تكن يوماً من سلالة النساء اللاتي يشكون دوماً آلامهن وأوجاعهن، بل كانت صبوراً إلى حد القتال، وكانت تحتمل من أجل الروح المُقدسة بداخلها، ألا وهي روح الفن والطرب الأصيل، حتى أكلها المرض أكلاً، ووافتها المنية في يوم لم تقدر على التحمل، وماتت إثر انفجار شديد في المخ.
ربما صوتها العالي، حاد المعالم كان له أثره في تلك اللحظة، حينما صرخت من الألم وانفجر بداخلها كبت السنين الماضية كله، فدخل إليها زوجها وقد اكتشف أنها تلتقط أنفاسها الأخيرة، ربما حاول بالزواج منها أن ينقذها، لكن القدر كان الأقوى، والأشرس في هذا الموقف اللعين، الذي قضى على حياتها في لحظة.
شعر وموسيقا
غنت أم كلثوم لكبار الشعراء، فتفردت بقصائد أحمد شوقي من خلال عشر قصائد هي «أعيد الدهر» عام 1936، وبعد هذا التاريخ بعشر سنوات غنت له ست قصائد هي «ولد الهدى- السودان- نهج البردة- سلوا قلبي- سلوا كؤوس الطلا – أتعجل العمر»، وفي عام 1949غنت «النيل»، وغنت «بأبي وروحي الناعمات» عام 1954، وفي 1969 تغنت بقصيدة «إلى عرفات الله».
ومن روائع «أبو فراس الحمداني» غنت قصيدة «أراك عصي الدمع» التي تقول:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
كذلك قصيدة «ثورة الشك» من أشعار الأمير عبدالله الفيصل، أما تجربتها مع الشاعر عمر الخيام فغنت له قصيدة «رباعيات الخيام»، ومن أشعار إبراهيم ناجي قصيدة «الأطلال»، وقصيدة «هذه ليلتي» من أشعار جورج جرداق، ومن قصائد شاعر الباكستان محمد إقبال «حديث الروح»، وغنت أم كلثوم أيضاً رائعة من روائع الشاعر السوداني الهادي آدم وهي قصيدة «الغد» أو «أغداً ألقاك»، كما غنت من أشعار بيرم التونسي رائعة «جميلة».
ومن أشعار شاعر الياسمين نزار قباني غنت قصيدة «أريد بندقية»، ويقول مطلعها:
أريدُ بندقية..
خاتمُ أمّي بعتهُ
من أجل بندقية
محفظتي رهنتُها
من أجل بندقية..
حب الوطن والمجهود الحربي
ساهمت أم كلثوم على مدى رحلتها الفنية في كل الأحداث والمناسبات الوطنية التي مرت بها مصر والأمة العربية وعاشت معها وتفاعلت معها فتغنت بـ«مصر التي في خاطري وفي فمي.. أحبها من كل روحي ودمي» من كلمات أحمد رامي، كذلك غنت من الشعر العمودي لحافظ إبراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي».
وقد جندت أم كلثوم صوتها لخدمة بلدها فقامت بالعديد من الرحلات الفنية للغناء من أجل مصر في الدول العربية والأوروبية وأصبحت سفيرة الفن العربي في أوروبا تساهم بفنها العظيم في قضايا الوطن والإنسان.
وفي حب الوطن غنت «أنا الشعب» و«مصر تتحدث عن نفسها» و«سلو قلبي» و«الله زمان يا سلاحي» و«على باب مصر» وبعد النكسة «أريد بندقية»، وللزعيم عبدالناصر غنت «يا سلام ع الأمة» وفي رثائه «عندي خطاب عاجل إليك» و«رسالة إلى الزعيم».