قضايا وآراء

كريم خان يطلب النصرة لنصف العدالة

| عبد المنعم علي عيسى

مع الطلب الذي تقدم به كريم خان إلى محكمة الجنائية الدولية التي يشغل فيها منصب المدعي العام، يكون الأخير قد مضى في سعيه لتحقيق «نصف العدالة»، فالطلب إياه الذي تقدم به خان يقضي بإصدار مذكرات توقيف بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة قادة من حركة «حماس» وعلى رأسهم إسماعيل هنية الذي يشغل منصب رئيس مكتب الحركة السياسي، وبذا يكون الطلب قد وضع «الجلاد» و«الضحية» في ميزان واحد، لكن على الرغم من ذلك يبقى الطلب على درجة عالية من الأهمية، إذ لطالما كانت المقاومة تستمد مشروعيتها من شرعية قضيتها ولا أهمية هنا تذكر لهذه الأخيرة بعيداً عن تلك الشرعية، في حين تستمد إسرائيل «مشروعية» كيانها، من استمرار الدعم المادي الغربي الذي تتلقاه، ثم من القرارات الدولية التي تصدر عن نظام دولي تلعب الولايات المتحدة فيه دور رأس الحربة، وبدرجة كافية لأن تحيل النتائج التي تتمخض عنها تلك القرارات صفراً إذا ما اقتضت الضرورة ذلك والشواهد هنا هي أكثر من أن تعد أو تحصى.

لا ترى تل أبيب أن «السهم» قد غادر «القوس» بعد، فالطلب الذي رفعه خان سيمر على ثلاثة قضاة، القاضية الرومانية يوليا موتوك، والقاضية المكسيكية ماريا ديل سوكورو والقاضية راين ألابيني جانسوا من دولة بنين، واستصدار مذكرات توقيف بحق الأسماء الخمسة يقتضي، وفق قانون المحكمة الذي وضع العام 2002، موافقة القضاة الثلاثة، والجدير ذكره في هذا السياق أن لا موعد نهائياً، ملزماً، لأولئك للرد على طلب مدعي عام المحكمة، وفعل الرؤيا يمكن لحظه من خلال الهجوم المنظم الذي شنته مؤسسات الكيان التي تحولت إلى ورشات عمل لمحاصرة القرار المحتمل، بدءا من «المدعي العام» الإسرائيلي عميت إيسمان الذي اعتبر أن المحكمة «فاقدة لكل الصلاحيات التي تؤهلها لإدارة تحقيق في الموضوع»، ومروراً بوزير خارجية الكيان يسرائيل كاتس الذي أصدر أوامره بتشكيل «غرفة طوارئ» لمواجهة طلب كريم خان والتداعيات التي يمكن أن تترتب عليه في حال صدور مذكرات التوقيف، ثم وصولا إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قال إن طلب هذا الأخير هو «عملية اغتيال»، وأن الفعل هو أشبه بصب الزيت على «نار معاداة السامية المشتعلة في شتى أنحاء العالم» قبيل أن يرمي بما يمكن تسميته بـ«ورقته الرابحة الأخيرة» عندما وصف الحرب في غزة بأنها «حرب جميع الديمقراطيات».

أنشئت «محكمة الجنائية الدولية» بموجب «نظام روما» الذي أقر في 17 تموز1997، وفي العام 2015 أضحى عديد الدول الموقعة على هذا الأخير 123 دولة، بمعنى أن هذي الأخيرة كلها تعترف بالميثاق الذي تأسست تلك المحكمة بناء عليه، وهذا يفرض عليها، نظريا، الالتزام بقوانينها، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد الهجوم الأميركي الذي تعرض له طلب خان جنباً إلى جنب نظيره الإسرائيلي سابق الذكر، والضغوط إياها سبق لخان أن اعترف بها في مقابلة تلفزيونية أجريت معه في اليوم التالي لتقديم طلبه سابق الذكر، وأضاف إن تلك الضغوط «لن تجعله يغير طبيعة عمله»، قبيل أن يفجر مفاجأة من العيار الثقيل حين ألمح إلى أنه أبلغ، عشية تسلمه لمنصبه، بأن المحكمة «أنشئت أصلاً من أجل روسيا وإفريقيا»، والمؤكد هو أن القول الأخير يدخل في باب «المحظور» الأميركي الذي لا يعرف حتى الآن لماذا قرر خان تحديه.

أيا تكن المآلات التي سيصير إليها طلب مدعي عام «الجنائية الدولية» فإن من الصعب البناء عليها وصولا لتحقيق العدالة في قضية مثلت طعنة في جبين عالم توافق، ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، على نصرة السلم وإحقاق الشعوب التي سلبت حقوقها، أقله وفق ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة الذي جرى الإعلان عنه في النهاية آنفة الذكر، لكن مجرد الذهاب في هكذا سياقات فهذا يعني أن واشنطن وتل أبيب باتتا في موقع الدفاع عن النفس، بل بالأدوات التي صنعتها أياديهما والتي صممت لمحاسبة المتمردين، مما تؤكده تصريحات خان سابقة الذكر، وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله دعاوى جنوب إفريقيا التي تلاحق الكيان بتهم ارتكاب «إبادة جماعية» في محكمة العدل الدولية فإنه يمكن القول إن المناخات المحيطة بهذا الأخير باتت تضيق أكثر فأكثر، وإن زمن العربدة آيل للانحسار وبفعل غربي قبيل أن يكون بفعل أي أحد آخر، وهذا يشير إلى رؤى غربية راحت تتبلور على وقع «الطوفان» حتى استقرت على قاعدة مفادها أن لزوم «عيش» إسرائيل واستمرارها هو أن تتصرف وفق الحجم والدور المرسوم لها سابقا عندما كانت القطبية الغربية في مكان آخر، ووفق القوانين الدولية التي رسمها المجتمع الدولي بتوافقات عدة، وهذا يصح توصيفه على أنه بداية النهاية لـ«الاستثناء» الإسرائيلي الذي لم يعد يعتد الآن سوى بأمريكا التي ستجد حرجا في دوام وضعيتها تلك.

في مقلب آخر، يمكن القول إن خطاب الولايات المتحدة وإسرائيل، الداعي دول العالم لمقاطعة «المحكمة الجنائية الدولية» يشي بنهوض جديد للعقلية الاستعمارية التي تلاشت منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ولم يبق من «تجلياتها» سوى طرق التعاطي مع إسرائيل التي تستنهض واشنطن، الآن، من أجل دوام، تلك العقلية على أمل أن يطيل الفعل من عمر «قلعتها» الشرق أوسطية.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن