قضايا وآراء

موج تايوان الذي لا يلبث أن يعلو بعد أدنى هبوط

| عبد المنعم علي عيسى

شكلت حالة الجزيرة التي لا تزيد مساحتها على 37 ألف كيلو متر مربع، والتي لا تبعد أكثر من 140 كم عن «البر» الصيني، حالة إشكالية للجمهورية التي جرى الإعلان عنها عشية انتصار الثورة الشيوعية العام 1949، ففي أعقاب هذا الحدث الأخير فرت جل قيادات «الحزب القومي الصيني- الكومنتانغ» الذي سبق له وأن حكم البلاد لمدة 21 عاماً سابقة لذاك التاريخ، إلى تايوان حيث استطاعوا إقامة حكم فيها سيحظى بـاعتراف دولي.

كانت مناخات «الحرب الباردة» قد ساعدت «الكومنتانغ» في ترسيخ حالتهم سابقة الذكر، لتظل «تايوان» وحكومتها القائمة فيها هي «الممثل الشرعي للشعب الصيني» وفقاً لاعتراف منظمة الأمم المتحدة الذي بـقي كذلك حتى العام1971 عندما أقرت هذه الأخيرة بأن الحكومة القائمة في بـكين هي التي يجب لها أن تشغل تلك الصفة، كان ذلك أيضاً أحد تجليات «الحرب الباردة» التي فرضت على الولايات المتحدة تغييراً في طرق تعاطيها مع العديد من الملفات الدولية، الأمر الذي سيدفع بـواشنطن إلى الاعتراف رسمياً بـحكومة بـكين العام 1979، وهو ما ساعد في إضفاء حال من الاستقرار الصيني، لكن المشوب بـ«لطعات» ثلاث تمثلت في بـقاء كل من هونغ كونغ وماكاو وتايوان خارج سيطرة حكومة بكين، وإذا ما كان هذا الواقع قد تغير في عامي 1997 و1999 اللذين شهدا عودة الإقليمين الأولين لتلك السيادة على التوالي، فإن الثالث ظل عصياً على الفعل، الأمر الذي تزايدت حدته مؤخراً بـفعل «الحرب الباردة» غير المعلنة ما بـين بـكين وواشنطن والتي خرجت للعلن منذ العام 2010 عندما حصل اقتصاد الأولى على المرتبة الثانية على لوائح أقوى الاقتصادات العالمية، والفعل من حيث النتيجة كانت له تداعياته التي جعلت من «ورقة» تايوان من النوع الذي لا يمكن التفريط بـها.

مسألة تايوان، عدا عن كونها قضية سيادية للصين، لها اعتبارات أخرى ذات طابع جيوسياسي من حيث إن الموقع قد وضعها في وسط سلاسل التوريد العالمية وفي قلب طرق التجارة البحرية، ناهيك عن اعتبارات أخرى لا تقل أهمية عن الأولى لها علاقة بـالدور التكنولوجي الذي راح ثقله يزداد حتى تحولت الجزيرة إلى الرقم واحد عالمياً من حيث إنتاج أشباه الموصلات والرقائق الدقيقة التي ازدادت أهميتها بـفعل تنامي الثورة التكنولوجية الراهنة، وهذا من شأنه أن يضيف للقضية الأولى، السيادية، ثقلاً قد يعادله من حيث الأهمية، أما أهمية المسألة على الضفة الأميركية فعدا عن كونها ورقة ضغط بـيد واشنطن يمكن للأخيرة المساومة من خلالها، فإن لها اعتبارات شديدة الأهمية وهي تتعلق بـالصراع الذي يمكن وصفه بـ«صراع النموذج»، ومن خلاله تسعى واشنطن لدحض الخطاب الصيني القائل بأن النظام «الديمقراطي الغربي» لا يتلاءم مع طبيعة القيم والأفكار السائدة في المجتمع الصيني.

يوم الإثنين 20 أيار الجاري أقامت الجزيرة حفل تنصيب لـ«رئيسها» لاي تشينغ- تي الذي سبق له وأن فاز بالانتخابات التي أجريت في شهر كانون ثاني المنصرم، وفيه ألقى الأخير خطاباً استمر لثلاثين دقيقة كان أهم ما جاء فيه أنه «يأمل أن تتقبل الصين حقيقة وجود «جمهورية الصين»، وتحترم خيارات شعب تايوان»، والقول يمثل في مضمونه عودة للخطاب الذي كان سائداً ما قبل العام 1971 عندما كانت الجزيرة تسمى بـ«جمهورية الصين»، صحيح أن لاي لم يأتِ على ذكر استقلال تايوان، لكن وسم هذه الأخيرة بـذلك الاسم قد يحمل معاني تفوق ذكر الاستقلال، ويثير، لدى بـكين، مستوى من الاستفزاز هو أعلى من سابقاته التي تزايدت في الآونة الأخيرة، الأمر الذي لم يتأخر طويلاً حيث ستعلن بـكين، بـعد ثلاثة أيام من التنصيب، عن إجراء تدريبات عسكرية واسعة قال الغرب عنها إنها «صممت لتطويق تايوان من الشرق والغرب»، في حين وصفها المتحدث باسم الخارجية الصينية بأنها «عقابية»، وهي تهدف لردع أي تدخلات من القوى الخارجية، واللافت هو أن إجراء كهذا، أي القيام بـتدريبات عسكرية، مثّل نهجاً لطالما استخدمته بـكين كلما ذهبت حكومة تايبيه نحو إرسال إشارات تكون خارجة عن سياق «الحيثية» التي تحظى بـها، أو كلما مضى الغرب لإذكاء تلك «الحيثية» أو محاولة توسعة هوامشها، كما حدث، مثلاً، في أعقاب الزيارة التي قامت بـها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بـيلوسي للجزيرة صيف العام 2022.

تدرك بـكين أن تكرار السيناريو الذي حصل مع هونغ كونغ وماكاو في تايوان، أمر دونه مطالب أميركية عدة تبدأ عند التوافق على خفوت وهج «السلعة» الصينية التي راحت تدك عرش الهيمنة الغربي، ولا تنتهي عند وجوب وقف المحاولات الصينية الرامية إلى توسعة الشقوق الحاصلة في النظام الدولي الذي قام ما بـعد سقوط الاتحاد السوفيتي، كما تدرك أن سيناريو عكسي لهذا الأخير، الذي يتضمن حتماً استخدام القوة لتحقيق ذلك، أمر دونه مطبات ومخاطر عدة في الذروة منها أن الفعل سيطول ويطول، وأن المعادلات العسكرية القائمة راهناً ما بـين بـكين والجزيرة لن تلبث أن تنقلب رأساً على عقب بـعيد بـيان الحرب الأولى، ألم تكن تلك هي الحقيقة الأولى التي استنتجها الروس ما بـعد24 شباط 2022؟

ثمة أمر آخر يؤكد صحة هذه المقاربة الأخيرة، وهو لا شك يدخل في صلب الحسابات الصينية، هو أن لاي كان قد فاز بالانتخابات التي وصلت بـه إلى منصبه الذي تقلده يوم الـ20 من أيار الجاري بـنسبة وصلت إلى 42.1 بالمئة، والنسبة الأخيرة تشير إلى أن نصف سكان الجزيرة، البالغ عددهم 23 مليوناً، يؤيدون نزعة هذا الأخير نحو الانفصال.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن