قضايا وآراء

إطلالة على الداخل التركي.. سورية في قلب الحدث!

| د. بسام أبو عبد الله

جاءت نتائج الانتخابات المحلية في تركيا مفاجئة للكثيرين بما فيها الحزب الحاكم الذي قال زعيمه رجب طيب أردوغان إن الرسالة وصلته، وأعاد التأكيد على ذلك في خطاب له أمام كتلته البرلمانية مؤخراً حينما أشار إلى أن رسالة الشعب وصلت من خلال الانتخابات المحلية، وبدأنا اتخاذ اللازم، مضيفاً: إنه سيفترق عن الذين قرؤوا تلك الرسالة على نحو خاطئ أو لم تصلهم رسالة الشعب، حسب قوله.

كان لافتاً أيضاً أنه بعد هذه الانتخابات كثف أردوغان من نشاطاته تجاه غزة والقضية الفلسطينية بعد أن أدرك أن سياسة المراوحة وازدواجية المعايير لم تنفع بل دفع ثمنها تصويتاً عقابياً من الشعب التركي، حيث كثف من تصريحاته حول الوقوف إلى جانب حماس، واعتبر أن حماس تدافع عن الأناضول وهي خط الدفاع الأول لتركيا، مصّعداً لهجته بالقول: لا تعتقدوا أن إسرائيل ستقف عند غزة، فإذا لم يتم إيقاف هذه الدولة الإرهابية ستطمع عاجلاً أم آجلاً بالأناضول عبر وهم الأرض الموعودة!

ترافق هذا الخطاب مع إجراءات اتخذتها الحكومة التركية لتنشيط دبلوماسيتها، وتقديم مساعدات إنسانية وإعفاء الفلسطينيين من نفقات العلاج في المشافي الحكومية، وعقد مؤتمر لعلماء مسلمين لحشد الرأي العام التركي، وإظهار اهتمام الحكومة بما يجري في غزة بعد عقابها في الانتخابات.

أما زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض أوزغور أوزال فقد أدلى بتصريحات مهمة توضح سياسة حزبه، وخاصة تجاه اللاجئين السوريين والتعاطي معهم، حيث قال بوضوح شديد إنه كسياسي يمتلك وجهة نظر يسارية واجتماعية ديمقراطية ضد السياسيين والسياسات التي تؤدي لقدوم المهاجرين (أي الحديث عن الأسباب وليس النتائج) وتابع: لا يمكنني أبداً أن أكون ضد المهاجرين، وعلى تركيا أن تعد حزمة إجراءات تشجع المهاجرين للعودة إلى وطنهم، لكن بعد إحلال السلام مع سورية حيث يؤيد بوضوح الحوار مع الرئيس بشار الأسد كمخرج لذلك، ويرفض أيضاً التحريض على الحرب الأهلية في دولة جارة، مؤكداً أن ذلك هو السبب الأساسي للهجرة، وهذا خطأ كبير.

وعاد للقول: إن حزب الشعب الجمهوري يرغب أن تعود سورية إلى طبيعتها وأن تنعم بالسلام.

ترافقت هذه التصريحات لأوزال مع تصريحات أخرى طالب فيها رؤساء بلديات حزبه بألا يكونوا طرفاً في الممارسات الشعبوية المعادية للأجانب، محذراً من استخدام لغة التمييز التي تصور كلمة «العربي» وكأنها شتيمة، موضحاً أن هناك ستة ملايين عربي في تركيا، ولا يجوز المس بمشاعرهم وثقافتهم، كما أن الشعب التركي يقدس ويحترم اللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم.

وبرر الصحفي المقرب من القصر الرئاسي عبد القادر سلفي تصريحات أوزال بأنها جاءت للحيلولة دون تقديم حزب الشعب الجمهوري بصورة الحزب المناهض للدين، ووصف كلامه أنه تدخل في الوقت المناسب، وأما القوميون اليمينيون الذين منوا بخسارة مدوية في الانتخابات البلدية، فقد علقوا بالقول: «إنه يبدو أن حزب الشعب الجمهوري قد عقد قراناً دينياً مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وجلسا معاً حول طاولة زفاف واحدة»، حسب الناطق بلسان «حزب الظفر» عزمي قرة محمود أوغلو، في حين علق أحد نواب رئيس «حزب الجيد» أوميت أوزلالي رداً على تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري عن لافتات المطاعم العربية بالقول: «المكتوب في تلك اللافتات ليس آيات قرآنية بل شاورما دجاج»!

لم يتوقف الأمر على أوزال، بل إن دولت بهتشلي زعيم حزب الحركة القومية الشريك لأردوغان قال قبل أيام: إن هناك حاجة لعملية عسكرية مشتركة بين تركيا وسورية للقضاء على حزب العمال الكردستالي «PKK» الإرهابي، ومصادره في شمال شرق سورية، ويبدو أن تصريحاته جاءت لتعكس أيضاً وجهة نظر أردوغان التي غالباً ما يعبر عنها هو شخصياً حينما لا يريد الأول الحديث عن ذلك، وترافقت هذه التصريحات مع اجتماع لمجلس الأمن القومي التركي عقد يوم الثلاثاء 28/5/2024 برئاسة أردوغان، ناقش فيها ما سماه عمليات مكافحة الإرهاب خارج الحدود!

إن مجمل هذه التصريحات المتتالية والتعليقات التي صدرت عن قادة الأحزاب السياسية التركية تعكس بشكل واضح مجموعة من المؤشرات:

1- لا إمكانية لحل ملف اللاجئين السوريين من دون إيجاد حل مستدام في سورية يعيد الأمن والاستقرار، ويعيد الاقتصاد السوري إلى عافيته، أي طرح آخر هو طرح ساذج، مزايد، شعبوي، يتحدث عن النتائج من دون الأسباب، ويبدو أن تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري تعكس بشكل أو بآخر قناعة سياسية تركية عامة بما في ذلك لدى أردوغان نفسه، وخاصة أن لقاءً جمع الاثنين معاً بعد الخسارة المدوية للحزب الحاكم في الانتخابات البلدية الأخيرة.

2- يلاحظ أيضاً أنه على الرغم من العمليات العسكرية التي تستهدف الإرهابيين في إدلب من الجيش العربي السوري والأصدقاء الروس، فإن لهجة أنقرة بدأت تميل للتهدئة إذ لم تعد تصدر تصريحات عالية النبرة بعد كل استهداف حول أن ذلك سيؤدي لتدفق اللاجئين بل تكتفي تركيا بالصمت وعدم التعليق، مدركة أن من هم في إدلب أصبحوا ورقة للإيجار بيدها، وبيد أجهزة استخبارات دولية أخرى منها الأميركية والبريطانية والفرنسية ونضيف الأوكرانية.

إضافة إلى ذلك، فإن هذه المناطق تحولت إلى مناطق عصابات وإرهاب ومافيات، هدفها المال والمال فقط، تحت عناوين دينية لم تعد ذات أثر وتأثير في المواطنين الذين تحولوا لرهائن بأيدٍ تنظيمات إرهابية مجرمة مهما تغيرت أسماؤها.

3- تراقب تركيا كغيرها من الدول خطوط التقارب العربي مع سورية، وخاصة من المملكة العربية السعودية، وبالطبع تبحث عن دور لها، وخاصة أنها تمتلك أوراقاً بيدها ستحتاجها في أي مفاوضات مقبلة، ومن هذه الأوراق «ورقة إدلب»، وتدرك في الوقت نفسه أن مشاريع إسقاط الدولة السورية قد ذهبت أدراج الريح، وبالتالي تعيد حساباتها وفقاً لكل هذه التطورات.

4- صحيح أن مؤتمر بروكسل قد خصص لتركيا مبلغاً وقدره 1،3 مليارات يورو خدمة للاجئين بهدف منع تركيا لهم من الانتقال لأوروبا، لكن تركيا ترى التشققات التي بدأت تظهر في الموقف الأوروبي من خلال تمايز مواقف إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وقبرص واليونان وهنغاريا وصربيا عن المواقف المتشددة لألمانيا وفرنسا، إذ تركز الأولى على ضرورة الحوار مع الحكومة السورية ودعم مشاريع الإنعاش المبكر مقابل تشدد فرنسي- ألماني بدأ يتصدع، لأن دول الاتحاد الأوروبي قد ترى أن مصالحها متباينة ولا يمكنها السير خلف السراب الفرنسي- الألماني الذي فقد ما راكمه من قوة ناعمة طوال عقود بعد موقفها اللاإنساني تجاه الإبادة الجماعية في غزة، وهذا يكشف أكثر مواقفهما تجاه سورية أيضاً، أي إنهما كذبتا في الحالة السورية وفضحتا في حالة غزة.

بشكل عام المكابرة الأوروبية ستسقط مع تطور الأحداث المتسارعة في المنطقة، وعدم قدرة دول المنطقة على الاستمرار بتحمل أعباء اللاجئين، وخاصة مع تقلص الموارد المالية، التي كانت تسكتهم جميعاً.

5- على الرغم من تراجع الحديث، والتصعيد ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وحديث أوزغور أوزال من أن بقاء السوريين يشكل خطراً على التركيبة السكانية في تركيا، إذ يشير إلى أن معدل الولادة لديهم يصل إلى 5،65 بالمئة، في حين انخفض معدل الولادة عند الأتراك إلى 1،45 بالمئة ما يعني حسب قوله إن عدد السوريين في تركيا سيصبح 25 مليوناً بعد 20 عاماً، أقول على الرغم من ذلك كله فإن أوساط رجال الأعمال والصناعة والزراعة تقول للمسؤولين الأتراك إنه لولا اليد العاملة السورية لما تمكنا من إنشاء بناء واحد بعد الزلزال، وكذا الأمر في القطاعات الإنتاجية الأخرى، أي إن اللجوء السوري تحول لعامل نمو للاقتصاد التركي على عكس ما يتحدث عنه البعض بين فترة وأخرى.

أخيراً: إن مجمل ملاحظاتنا التي أشرنا إليها عن المواقف التركية ضرورية لمتابعة ما يجري داخل تركيا، وتبدل المواقف الواضح بعد إخفاق خيارات كثيرة سابقة، إذ إن مفتاح الخلاص من مشاريع التقسيم، وانتشار الإرهاب الذي سهلت له تركيا سابقاً لن يتم إلا بالعلاقة المباشرة مع دمشق، والانسحاب من الأراضي السورية، وإقامة علاقات طبيعية بين البلدين تقوم على الاحترام للسيادة والاستقلال وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتخلي عن مشاريع القرون، واستعادة الامبراطويات التي ثبت أنها لم تجلب سوى الدمار والخراب لشعوب المنطقة والتراجع الاقتصادي والمشاكل لأصحابها.

الزمن القادم هو العودة للواقع والتسويات الكبرى، وخاصة أن على أنقرة أن تدرك أن مفتاح الخلاص هو في دمشق، وليس في أي مكان آخر، هذه ليست عنتريات، إنما هي واقع التاريخ والجغرافيا، ونتائج انقلاب السحر على الساحر.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن