ثقافة وفن

السرّ وما لا يغتفر!!

| إسماعيل مروة

مفهوم الصحبة أو الصداقة أو أي مسمى يختاره المرء بدافع عاطفي أو مصلحي، هو مفهوم شائع ومعروف في ثقافتنا الاجتماعية العربية أكثر من أي ثقافة أخرى، وكثيراً ما نسمع من هذا أو ذاك عن صداقات قد تكون وقد لا تكون، ويدّعي كثيرون صداقات يبنونها في الوهم.. وأذكر عدداً ممن عرفتهم، رحم الله أكثرهم، لا يذكر شخص أمامهم إلا ويدّعون معرفته والجلوس معه، ويدّعون صداقته، وربما يسرد بعضهم شيئاً من النوادر التي كانت بينهم!

وترتفع نسبة الادعاء بالصداقة والمعرفة لصنفين من الناس، أصحاب المواقع السياسية والتنفيذية، وأهل الشهرة والنجومية، وهنا تبدأ الحكايات المنسوجة من الخيال في التشكيل، وربما، وكثيرون منا يعرفون أشخاصاً عندما يتحدثون عن واحد من هؤلاء المشاهير في السياسة والفن يتحدثون عنهم بشيء من التبسط وإزالة الرسميات، فقد زرت أبا فلان، وقال لي أبو فلان، واتصل بي أبو فلان!

وأحياناً يصل الأمر بواحدهم أن يحمل هاتفه ويخرج من الجلسة، ويطيل الحديث، وحين يعود إلى الطاولة، يقول ودون أن يسأله أحد: أعتذر فأبو فلان طلبني ليأخذ رأيي، وبما أن أغلب الموجودين لا يعرفون أبا فلان، فإن الرجل يتطوع بالحديث عنه وعن أهميته ومهامه، وعن المكانة التي يحتلها عنده دون باقي الناس! وتكتشف فيما بعد أن هذا الأبو فلان قد لا يرى صاحبنا إلا نادراً، وإذا ما مرض أو غاب لا يفتقده! وإذا ما مات لا يشعر برحيله، وربما لم يقم بالعزاء فيه والسؤال عنه في مدة ما قبل الرحيل!

واليوم ومع وسائل التواصل والهواتف الذكية كثرت قضية الادعاء، فإذا ما جمع الشخص بالشخص المشهور مكان ما أو موقف ما، فإنه يلتقط صورة (سيلفي) وربما صنع حولها حكايات وحكايات لم تكن لتحدث في يوم من الأيام.. وإذا ما حدث لقاء سياسي أو اجتماعي، فإنك ستجد في اليوم التالي كماً من الصور على وسائل التواصل تعجز عن متابعته، مع عبارات المديح والإطراء للشخص الذي جمعته به المصادفات!

وتسمع في الجلسات انتقادات لهذا الرجل أو ذاك، وإن صادف ورحل هذا الشخص، فإنك ستسمع عبارات الأسف والحزن، وتعابير الصداقة التي تصل حدّ العشق والوله، وينسى الواحد منهم أن رحلة الحياة تضم شهوداً على الحقيقة، وربما استمر العداء بعد رحيله، وصار مستحكماً أكثر، مع أنه لا يملك أي قدرة على الدفاع عن ذاته أو مواجهة الآخر!

فعل الصداقة أو الصحبة أمر يختلف كثيراً عن المعرفة أو التعارف، فقد يعرف واحدنا كل الناس الذين يراهم، ولكنه ليس صاحباً لهم، ولا يحق له أن يتحدث بأسمائهم، وأن يسرد لقاءاته بهم، وأكثر ما يتجلى ذلك في المشاهير من الفنانين والأدباء، وفي رجال الدولة والساسة، وقد سمعنا الكثير من الأمور غير المنطقية التي تتعلق بالمشاهير وحكاياتهم، وكل واحد يدّعي أنه يعرفه، من العقاد إلى طه حسين إلى شوقي إلى فخري البارودي وعبد السلام العجيلي ونزار وأدونيس وسواهم، وفي هذا الجانب قد ينجو مدّعي الصداقة وسارد الحكايات، فالمسافات بعيدة، وقد لا يلتفت هؤلاء لحكايات البطولة التي يسردها هذا وذاك، وإن كانت مبالغة أو كانت مختلقة جملة وتفصيلاً.

لكن المشكلة تكون ورطة، وتصبح ذنباً لا يغتفر عندما تتعلق برجال السياسة، فهذا يتحدث عن علاقة خاصة بمسؤول، وعن مباسطات مع رجال دول، وربما كانت الغاية المباهاة بالقرب من مواقع سياسية وتنفيذية، مع أن المفترض بالشخص، وإن جمعته المصادفات بهم أن يكون كاتماً للسر، ولما جرى ويجري مهما كان نوع الحديث في الخطورة أو الطرافة، لكن واحداً لم يكن يحلم أن يلتقي واحداً من هؤلاء الأجلاء يبدأ بسرد الحكايات والطرف، وربما أضاف ملاحظاته على ما جرى، ودخل في جوانب توهّمها أو قرأها ما يجعله في مناطق لا تحتمل الغفران، ويأتيه في لحظة عقاب من نوع ما، أو لفت نظر، وربما كان الأمر غير ذلك!

الخليفة العباسي المأمون قال كلاماً قرأناه، ولكننا لا نعمل به مع أهميته «الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها! إلا إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقَدح في المُلك» نقرأ ولا نعتبر، وأكثر الذين نسمعهم في كل مكان عندما يتحدثون لا يتحدثون إلا فيما لا يغتفر!

لو وعينا المأثور (المجالس أمانات) لما احتجنا يوماً إلى نصيحة، ولو عرفنا أن الحياة رحلة تجمعنا معاً لما أفشينا سراً.. وليتنا نعرف مغزى من يضع بين أيدينا سراً كما فهمه عمرو بن العاص، «ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه ولمته، لأني كنت أضيق صدراً حين استودعته إياه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن