جنيف.. حسابات جديدة
| مازن بلال
تخوض المعارضة السورية أولى تجربة مباشرة لها في إدارة الأزمة السورية، وخلال الأيام الثلاث الماضية بدت طاولت جنيف منطقة صراع حول أولويات التفاوض، وكان واضحاً أن المناورة التي يقوم بها الوفد المنبثق عن مؤتمر الرياض ستصل إلى مداها خلال أيام، فالوفد وبعد تصريحات نارية قرر الذهاب إلى جنيف محققا إنجازاً وحيداً هو تأجيل التفاوض، ولكنه في المقابل قدم مشهدا يستحق القراءة لأنه يعكس طبيعة التفكير الإقليمي، والحسابات الخاصة بالرياض وأنقرة تجاه أي إمكانية للتحول على مستوى المنطقة كلها.
في ترتيبات السعودية هناك هاجسان أساسيان: الأول فقدان التأثير القوي الذي كانت تتمتع به في الحرب الدائرة في سورية، والثاني سقوط قدرتها على تحييد قوى أساسية على المستوى العربي مثل مصر، وكان مؤتمر الرياض خطوة أولى لإثبات قوة التأثير قبل انعقاد جلسة مجلس الأمن التي نتج عنها القرار 2254، ومسألة «استباق القرار» لا تزال حتى اللحظة تقود التفكير السعودي في جميع المسائل، فالوفد القادم من الرياض تجاوز خلال الأيام الماضية كل ما يتعلق بأساسيات الحل كما وردت في قرار مجلس الأمن، وخاض حرباً إعلامية رغم التصريحات الأميركية بضرورة حضوره من دون شروط، وكان المستفيد من هذه المعركة تركيا التي ضمنت استبعاد وفد الاتحاد الديمقراطي، برئاسة صالح مسلم، على الأقل خلال الجلسات الأولى لعملية التفاوض.
عمليا فإن ما يظهر في جنيف هو حسابات جديدة وليس بالضرورة حلا سياسيا للأزمة السورية، فكل العواصم المؤثرة في الحرب الدائرة اليوم تدرك أن رفع سقف الصراع هو انتقال لمواجهة دولية، وإذا كانت القوى الدولية قادرة على فرض حدود تساعدها على عدم الوصول إلى حافة المواجهة، فإن «الرياض» و«أنقرة» تسعيان للتعامل مع هذه الحدود وفق هامشين أساسيين:
– الأول إيجاد نقاط تصعيد ترفع مستوى الخطر في أوروبا، وهذا ما قامت به تركيا تحديدا عبر فتح خطوط للهجرة غير الشرعية التي أربكت الاتحاد الأوروبي عموما، وأعادت لها موقعا فقدته نتيجة المواجهات داخل سورية.
– الثاني استخدام الصراع في سورية لإحداث تحول جيوستراتيجي عام، فالرياض من خلال حرب أسعار النفط وتبديد الفائض المالي لديها تسعى ليس فقط لاستبعاد دول إقليمية مثل إيران، بل أيضاً للمساعدة في إفشال أي تحول في النظام الدولي من خلال الاستنزاف المالي لروسيا.
والملاحظ أنه عبر الهامشين السابقين ظهر الوفد السوري المنبثق عن مؤتمر الرياض، فهو وفد «التأثير القوي» في كسر التوافقات الدولية؛ لأنه يناور ضمن الخط الأحمر الذي فرضه قرار مجلس الأمن، فيدفع واشنطن بالدرجة الأولى للتحرك من أجل عدم انهيار الطرف الذي يقف تحت مظلتها، فإذا كانت الإدارة الأميركية لا تمارس ضغطا أكبر على الرياض وأنقرة، فلأنها وفي ظل الميزان الدولي المتبدل غير مستعدة لصراعات جانبية مع حلفاء تقليديين لها، فهي ستترك للسعودية فرص التحرك ضمن حدود عدم انهيار المفاوضات قبل أن تبدأ.
ليس مهما الهشاشة السياسية للوفد القادم من الرياض، لأن هذه الهشاشة مطلوبة من السعودية وتركيا لـ«كسر التوافقات» القائمة اليوم، وإدخال قرار مجلس الأمن في متاهة التفاصيل «الإنسانية» بالدرجة الأولى، فالحسابات الجديدة في مؤتمر جنيف لا تدخل إلى صلب نقاط الحل بل إلى الاستنزاف السياسي، ثم انتظار انهيارات إقليمية جديدة تغير المسارات.