قضايا وآراء

عندما يصبح الصمود انتصاراً.. التحول المفاهيمي والقيمي لحرب غزة

| د. مازن جبور

القضية الفلسطينية باتت اليوم تتجاوز أساليب الفهم التقليدية للصراعات في العالم، ومعايير تحديد المنتصر فيها، إذ إن طبيعة الصراع وانعكاساته على مختلف الملفات المحلية والإقليمية والدولية، تجعل من الصعب تحديد المنتصر اعتماداً على النتائج العسكرية والمادية المباشرة فقط، بل من خلال التحول الذي تحدثه في السرديات والمفاهيم والقيم، ويمكن القول إن الحرب الدائرة في غزة اليوم قد أحدثت تحولاً عميقاً، ورسمت حدوداً جديدة للصراعات الإقليمية والدولية، وهي تحولات ستنعكس لاحقاً على مختلف الملفات في المنطقة والعالم.

تظهر أول وأهم التحولات التي أحدثتها القضية الفلسطينية، وقضيتها الراهنة في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، إذ أدت إلى انقلاب في الرأي العام العالمي على الكيان الصهيوني، وبشكل رئيس فئة الشباب من طلاب الجامعات، إذ إن التظاهرات المناهضة لإسرائيل والمؤيدة للقضية الفلسطينية، تمثل تحدياً للسياسات الخارجية للدول الداعمة للكيان، ولا بد أنها ستفرض عليها إجراء تغيرات عميقة في أجنداتها الخارجية، حيث تبدأ مرحلة جديدة أساسها السعي لحل القضية الفلسطينية، على اعتبار أن الموقف من فلسطين وقضيتها هو الذي سيكون محدداً أساسياً في أي انتخابات قادمة في الدول الغربية وفي الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص.

في السياق السابق يمكن فهم الضغط الأميركي على حكومة الكيان الإسرائيلي للدخول في اتفاق لوقف الحرب، وهو ما جعل الكيان يرضخ للحل الذي طرحه الرئيس الأميركية جو بايدن على مضض، إذ أكد مساعد رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، أن تل أبيب قبلت اتفاقاً إطارياً لإنهاء الحرب في غزة تدريجياً.

يأتي هذا الاتفاق في وقت تتزايد الضغوط على قيادة الكيان لوقف الحرب، سواء الضغوط الدولية أم الضغوط المحلية، إذ إن عوائل الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية باتت تحاصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أخفق في تحقيق هدف الحرب الرئيس الذي أعلنه، وهو استعادة الأسرى، ليمثل هذا الأمر بحد ذاته انقلاباً في مفهوم الانتصار في الحرب، أي أن يعلن عدوك عن هدف ويشن حرباً لتحقيقه، ثم يفشل في تحقيق هدفه بعد ثمانية أشهر من حرب إبادة جماعية دمر فيها الحجر والشجر والبشر، ولم يستطع أن يحرز أي تقدم، على حين أعلنت المقاومة أن لا إطلاق للأسرى إلا بموجب اتفاق عادل، يوقف الحرب ويعيد إعمار غزة، وهذا بحد ذاته انتصار للمقاومة، إذا ما تم بموجب طرح بايدن للحل.

مما سبق، نرى أن حروب المقاومة غيرت الكثير من المفاهيم منذ مطلع الألفية الثالثة، فبدءاً من دحر الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان على يد المقاومة وبمساعدة الجيش العربي السوري، وفيما بعد حرب تموز عام 2006، وصولاً إلى عملية طوفان الأقصى، فقد تغير مفهوم الانتصار، إذ إن الصمود الذي تحققه المقاومة بات يمثل انتصاراً كبيراً على العدو، كذلك تغير مفهوم الحرب، فإن واحداً من أهم أسباب انتصار المقاومة في حروبها خلال السنوات الماضية كان تبسيط التكنولوجيا، إذ يشكل العنصر البشري أهم أركان المقاومة في الحرب، فمقاتل من صفوفها، مثلما شاهدنا، يتمكن بسلاح فردي من ضرب مدرعة للعدو تكلفتها ملايين الدولارات، وتمثل فخر صناعته العسكرية، وهذا بحد ذاته تغيير لمفاهيم الحرب وللتفوق فيها وإن لم يمتلك التقدم التكنولوجي، وخير دليل على ذلك ما يحدث في غزة الآن، فإن جيش الاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية المتقدمة عسكرياً وتكنولوجياً، لم يستطع أن يحقق نصراً نهائياً على المقاومة التي لا تزال تقاوم العدو وتباشر في استهداف قواته وتكبيده خسائر فادحة، بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب، وهذا بحد ذاته انتصار.

لم يقف التحول بالقواعد والمفاهيم التي تحكم الحرب ونتائجها هنا، بل تجاوز ذلك ووصل أثر الحرب إلى أن غيّر قواعد الاشتباك في المنطقة، وهو ما شهدناه من تحركات المقاومة اليمنية، التي أثرت بشكل كبير في حركة الملاحة في البحر الأحمر عبر باب المندب، وفي آخر الأخبار الإعلامية بهذا الشأن أن صواريخ المقاومة اليمنية قد أخرجت حاملة الطائرات الأميركية «أيزنهاور» من الخدمة في منطقة عملها، إضافة إلى أنها منعت السفن الإسرائيلية وغيرها من السفن التابعة للدول الغربية الداعمة للكيان من الملاحة عبر البحر الأحمر بحرية وأمان، ما أثر في تجارة تلك الدول، وبالتالي على التجارة العالمية بشكل عام.

كما غيرت الحرب من قواعد الاشتباك في المنطقة، على صعيد دول محور المقاومة في صراعها مع كيان الاحتلال، فقادت بشكل غير مباشر إلى اشتباك مباشر بين إيران وكيان الاحتلال، إذ استهدف الجيش الإيراني الأراضي الفلسطينية المحتلة بمئات الصواريخ والطائرات المسيرة، التي خرجت من إيران ودمرت قواعده العسكرية، وهذه المرة الأولى التي يستهدف فيها الكيان مباشرة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد أن كانت تقتصر المواجهة على الاشتباك بينه وبين حركات المقاومة في المنطقة.

ولعل التغيير المهم الذي فرضته حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر، هو التغيير في طبيعة القيم التي تحكم النظام الدولي الحالي، فبعد أن كان ينظر إلى انعدام الأخلاق في النظام الدولي، وأن المصلحة هي المحدد لعلاقات الدول ولسلوكياتها، فقد جاءت حرب غزة لتثبت أن الأخلاق لا تزال موجودة وحاكمة في النظام الدولي، وهو ما أثبتته جنوب إفريقيا والدول التي انضمت إليها، في دعواها التي قدمتها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، ضد كيان الاحتلال وممارساته الإجرامية في قطاع غزة، وتمكنت للمرة الأولى من إصدار قرار يدين الاحتلال، ووصل الأمر إلى احتمالية صدور قرار من المحكمة يقضي بتوقيف رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو.

في السياق ذاته، فإن دولاً غربية وللمرة الأولى في تاريخها تعترف بدولة فلسطين، ففي خطوة لافتة أعلنت إيرلندا وإسبانيا والنرويج رسمياً الاعتراف بدولة فلسطين، في حين أبدت دول أخرى مثل سلوفينيا ومالطا اعتزامهما اتخاذ خطوة مماثلة، وتمثل هذه الخطوة ثغرة في جدار الدعم الأوروبي اللامتناهي لكيان الاحتلال، في انتظار اتساع هذه الثغرة، التي جاءت بعد أن رفعت عملية طوفان الأقصى شأن القضية الفلسطينية مجدداً، في خضم مرحلة من التطبيع العربي مع الكيان، وهي مهمة جداً على الرغم من أن البعض قد يرى فيها أنها خطوة تتناغم مع رغبة الإدارة الأميركية في إيجاد مخرج للحرب الإسرائيلية على غزة، من خلال طرح مشروع حل سياسي للقضية الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه إخراج الكيان من ورطته في غزة.

إن المقصود من العرض السابق للتحولات التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى على الصعيد الفلسطيني والإقليمي والدولي، هو النظر إلى الانتصار في هذه المعركة بعين ترى أبعد من مفهوم الحرب التقليدية، بمعنى أن الانتصار في الحرب لم يعد يستند إلى عدد القتلى أو حجم الدمار، وفي معركة من قبيل المعارك التي تخوضها المقاومة مع كيان الاحتلال وداعميه، فإن معايير الانتصار مختلفة، وتقاس نتائج هذه الحروب بآثارها الكبرى والتحولات التي تحدثها في الرأي العام الدولي، الذي لابد أن ينعكس في قرارات ومواقف الأنظمة السياسية.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن