اقتصاد

الليبرالية الجديدة: أساطير وأوهام وتداعيات كارثية على الدول التي تبنتها (1)

| د. جوليان بدور

شكل انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينيات من القرن الماضي وفشل التخطيط المركزي في تحقيق التنمية الاقتصادية للدول النامية فرصة ذهبية للقوى الرأسمالية الكبرى في نشر فلسفة الليبرالية الجديدة أو(النيوليبرالية) على المستوى العالمي.

الفكرة الاقتصادية الأساسية لهذه الفلسفة تقوم على فرضية أن تدخل الدولة في الاقتصاد لا يساعد على التوظيف الأمثل للموارد النادرة لأنه يعرقل الأفراد والقطاع الخاص بالقيام بالاستثمارات والأعمال الرابحة مما يحرم الاقتصاد من موارد مالية إضافية مهمة ويضعف النمو الاقتصادي.

في هذا السياق التاريخي الملائم قام أنصار الفكر النيوليبرالي باستخدام المؤسسات المالية كصندوق النقد والبنك الدوليين والتجارة العالمية للترويج لفكرة أن التبادل الحر والخصخصة والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد هو أفضل وسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي وجلب الرفاهية والرخاء للأغلبية العظمى من الناس. وفي ظل هذه الظروف، تبنت الأغلبية العظمى من دول العالم (ما عدا الصين وبعض الدول) النيوليبرالية الجديدة كاستراتيجية اقتصادية بهدف الارتقاء بالتنمية الاقتصادية وجلب الرفاهية لأغلبية سكانها. بعد مرور أربعين عاماً من البدء على تطبيقها السؤال الذي يطرح هو هل نجحت حكومات الدول التي تبنت النيوليبرالية في تحقيق أهدافها أم إنها فشلت في ذلك؟ تجارب دول عديدة (تشيلي وأميركا اللاتينية، روسيا الاتحادية خلال حقبة التسعينيات ودول المنظومة الشرقية، مصر، المغرب، الأردن، اليونان وبريطانيا وغيرها من الدول)، تشير إلى أن الليبرالية الجديدة قد أخفقت كاستراتيجية اقتصادية في الارتقاء بالنمو الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي للسكان، هذا المقال يهدف إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء إخفاق النيوليبرالية في تحقيق أهدافها؟

1- غموض مفهوم الليبرالية الجديدة على الرغم من هيمنة الفكر الاقتصادي النيوليبرالي على أغلبية دول العالم خلال الأربعين عاماً الماضية، إلا أن مفهوم النيوليبرالية بقي غامضاً ومن دون تعريف دقيق وواضح. ففي دراسة نشرت في عام 2009 تبين أن ثلاثة أرباع المقالات العلمية التي تستخدم مصطلح الليبرالية الجديدة لم تُعرفه بشكل دقيق. والربع الباقي انقسم ما بين من يعتبر هذا المصطلح مرادفاً للانفصال التام عن الدولة وبين من يرى بأن الدولة يجب أن تلعب دوراً نشطاً في الاقتصاد. بشكل عام يمكننا القول إن الفلسفة النيوليبرالية قائمة على ثلاث ركائز أساسية:

اولاً إعلاء قيمة اقتصاد السوق الحر والتجارة الحرة والحرية الفردية مقابل تدخل الدولة في الاقتصاد، ثانياً: خصخصة الاقتصاد وتعزيز دور المبادرة الفردية والقطاع الخاص، ثالثاً: اتباع سياسة التقشف ومحاربة التضخم.

2- أسطورة النيوليبرالية وأوهامها، تقوم النظرية الاقتصادية التي تروج لها النيوليبرالية على ثلاثة أوهام أو فرضيات أساسية: لبرلة الاقتصاد، وخصخصة القطاعات والخدمات العامة، اتباع سياسة التقشف واستقرار الأسعار. فما السمات الأساسية لهذه الفرضيات النظرية وهل تؤكدها أم تدحضها البيانات الحقيقية للدول؟

3- (وهم لبرلة الاقتصاد) تحرير الأسعار وحركة رؤوس الأموال والتجارة الخارجية:

أ- المبدأ النظري من وجهة نظر أصحاب الفكر النيوليبرالي يعتبر التبادل الحر هو الشرط الأساسي والفعال لتحقيق التنمية المستدامة وجلب الرفاهية والرخاء لأغلبية الناس لأمرين أساسيين: الأول: هم يدعون أن التبادل الحر كان السبب الرئيسي وراء التنمية الاقتصادية التي حققتها الدول الغنية والرفاهية والرخاء الذي ينعمون فيه الآن. الثاني: هم يؤكدون، بالاستناد إلى نظرية المزايا النسبية لدافيد ريكارود، بأن التبادل الحر، على عكس السياسات الحمائية والاكتفاء الذاتي، هو الحل الأفضل للدول النامية للحصول على التخصيص الأمثل للموارد النادرة وتحفيز النمو الاقتصادي فيها.

ب- على أرض الواقع تجارب الدول ومعطيات الواقع تفنّد هذا الرأي لسببين رئيسيين: – الأول وحسب، هو- جون تشانغ (2003) فإن نظرية التبادل الحر هي أسطورة لا أساس لها من الصحة وأن الدول الغنية كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم يتبعوا قط سياسة التبادل الحر عندما كانوا في طور النمو البدائي بل بنوّا قوتهم الاقتصادية والصناعية بإتباع سياسات الحماية الجمركية.

– أما العامل الثاني فيتعلق ببعض بلدان الجنوب التي ضمنت صعودها في إطار ما يسمى التصنيع المتأخر وهي الصين وكوريا الجنوبية في هذا السياق، وعلى عكس ما تدعو إليه نظرية المزايا النسبية، أعتّمد هذان البلدان من أجل بناء قدرات صناعية وإنتاجية تنافسية وإنجاح اللاحق بالبلدان المتقدمة على ركيزتين أساسيتين أولاهما تدخل إرادي قوي للدولة لدعم وحماية المؤسسات الإنتاجية حتى تراكم شروط التنافسية من خلال اتباع آليات التعلم أو التمرين.

ثانيتهما ربط التدخل والدعم الحكوميين بشرط إحراز نتائج ملموسة وقابلة للقياس من خلال قدرتها على المنافسة واختراق الأسواق الدولية.

– لكن إذا كان الواقع يدحض مبادئ النيوليبرالية فما الغاية التي دفعت الدول الرأسمالية الغنية إلى الترويج بقوة لحرية السوق وضرورة تبنيها من دول الجنوب. الهدف الحقيقي لمثل هذه السياسة هو تحويل دول الجنوب إلى أسواق مفتوحة بالكامل بلا ضوابط قانونية لحمايتها بغية تمكين الشراكات العملاقة من دخول أسواق الجنوب الفقير لبيع منتجاتها وخدماتها من دون عوائق ضريبية أو جمركية ومن ثم السماح للأرباح والأموال بالانتقال من مختلف بقاع الأرض لتنتهي في البنوك والمصارف التابعة للشركات العملاقة.

أكاديمي وباحث اقتصادي في جامعة ريونيون الفرنسية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن