اقتصاد

الليبرالية الجديدة.. أساطير وأوهام وتداعيات كارثية على الدول التي تبنتها (2)

| د. جوليان بدور

استكمالاً للمقال الأول، استعرض معكم اليوم خرافة أو وهم خصخصة الاقتصاد (أي بيع الممتلكات والخدمات العامة للقطاع الخاص):

أ-المبدأ النظري يدعو أنصار النهج الاقتصادي النيوليبرالي إلى خصخصة القطاعات والخدمات العامة، وتخفيض الضرائب على أرباح الشركات بحجة أن الشركات الخاصة أكثر كفاءة وفاعلية من الكيانات التي تديرها الحكومة في تقديم الخدمات العامة وإنتاج السلع، وأن المنافسة بين الشركات الخاصة ستؤدي إلى زيادة الإنتاج والابتكار وانخفاض الأسعار بالنسبة للمستهلكين.

ب-على أرض الواقع تظهر المعطيات الحقيقية بأن خصخصة الاقتصاد والتبادل الحر وتخفيض الضرائب على أرباح الشركات لا أساس لها من الصحة لسببين رئيسيين: الأول هو أن تجارب الدول تشير إلى أن خفض الضرائب على الأغنياء والشركات لا يؤدي بالضرورة إلى الزيادة في الاستثمار المنتج بل تنجم عنه زيادة في المضاربات وارتفاع في الأرباح الموزعة على المساهمين ما يزيد من ثراء الأثرياء وفقر الفقراء. الثاني هو أن الحرية الاقتصادية والمنافسة الكاملة هما أسطورة لا صلة له بأرض الواقع بسبب القيود والضوابط التنظيمية الموجودة بكثرة في الدول المتقدمة (القيود على هجرة العمالة الأجنبية، سياسات دعم الزراعة والصناعات الوطنية، حجم الموازنة العامة للحكومات، الحرب التجارية الاقتصادية الحالية بين الدول المتقدمة والصين، سياسات فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية على العديد من الدول، تحديد سعر الفائدة من البنك المركزي الواقع تحت سيطرة الحكومات إلخ).

ج-أسطورة سياسة التقشف ورفع الدعم واستقرار الأسعار: أ- المبدأ النظري من وجهة نظر الاقتصاديين النيوليبراليين أن أتباع سياسة التقشف ومحاربة التضخم الناجم عن تفاقم عجز الموازنة العامة وضمان استقرار الأسعار وسعر الصرف ضرورة ملحة لتحفيز الاستثمار الخاص، بشقيه الوطني والأجنبي، والنمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل للمواطنين. ب- على أرض الواقع بصفة عامة يتبين من دراسات للبنك الدولي وباحثين آخرين أنه منذ أن تم اعتماد سياسات متشددة في مجال التضخم شهد العالم أزمات مالية ومصرفية عديدة كالأزمة المالية التي عانت منها كوريا الجنوبية وتايلاند في عام 1997 أو الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لكن الدراسة الأهم والأكثر معنىً هي ما قام بها ثلاثة من اقتصاديي صندوق النقد الدولي والمنشورة في عام 2016 (أي الهيئة الدولية التي تبنت وروجت بقوة للسياسات النيوليبرالية) والتي تبين بأن السياسات التقشفية وتحرير أسواق رأس المال التي كان يتشدق بها صندوق النقد زادا من مخاطر حدوث الأزمات المالية وساهما في انخفاض الطلب والنمو الاقتصادي وفاقما من مشكلة اللامساواة الاجتماعية.

أخيراً وليس آخراً يجب الإشارة إلى أن سياسة محاربة التضخم والسياسات التقشفية تؤدي إلى تقليص الإنفاق على مجالات حيوية كالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية والبنى التحتية والاستثمار في القطاع الزراعي إلخ مما يضر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

3- أضرار النيوليبرالية وتداعياتها الكارثية الناجمة عن تطبيق النيوليبرالية عديدة ومتنوعة وتشمل أغلب البلدان التي تبنت النهج النيوليبرالي.

1- على المستوى الاقتصادي في كتاب بعنوان نهاية النيوليبرالية والتاريخ يولد من جديد (2019)، لخص الاقتصادي الشهير جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل، التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات النيوليبرالية اقتبس بعد مرور أربعين عاماً، دعونا نلق نظرة على الأرقام: لقد تباطأ النمو، وذهبت ثمار هذا النمو في الأغلب الأعم إلى قلة قليلة للغاية عند القمة.

ومع ركود الأجور، وارتفاع سوق الأوراق المالية إلى عنان السماء، تدفقت الدخول والثروات إلى الأعلى، بدلاً من التقاطر إلى الأسفل.

2- على المستوى العالمي حسب الكاتب البريطاني (مون بيوت)، لعبت النيوليبرالية دوراً محورياً في مجموعة من الأزمات منها: الأزمة المالية العالمية (2008)، انتشار مراكز الأوفشور المالية التي يخفي فيها الأثرياء أموالهم بعيداً عن سلطات الحكومات، انهيار قطاعات الصحة والتعليم، زيادة الفقر وانتشار الأمراض النفسية، انهيار النظم البيئية.

3- على المستوى النفسي حسب الكاتب «بول هيجي»، أدى النظام النيوليبرالي إلى انتشار الكثير من الأمراض مثل اضطراب الأكل والاكتئاب والعزلة والشعور بالوحدة والقلق الدائم من فقدان العمل والخوف من المستقبل.

4- على المستوى الصحي والتعليمي حسب الدراسة التي أجرتها المجلة العلمية والمستقبل الاقتصادي (2022)، أدت السياسات النيوليبرالية إلى تحويل الرعاية الصحية والتعليم إلى سلعة خاصة للبيع بدلاً من كونها حقاً إنسانياً ومنفعة عامة مدفوعة من الخزينة العامة. وتشير هذه الدراسة إلى أن نتائج تطبيق الاصلاحات النيوليبرالية على قطاعي الصحة والتعليم كانت كارثية بكل معنى الكلمة، إذ أدت إلى تراجع متوسط العمر المتوقع وزيادة الوفيات وعدم المساواة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي والدخل الفردي، فالأفراد غير القادرين على دفع تكاليف الصحة والتعليم لن يحصلوا على مثل هذه الخدمات التي يحصل عليها الأغنياء.

5-تفاقم مشكلة المساواة الاجتماعية على أرض الواقع حيث تميل السياسات النيوليبرالية إلى تشجيع الاحتكار بغية رفع الأسعار وزيادة أرباح التجار والشركات على حساب المستهلكين، ما أدى إلى تركيز الثروة ووسائل الإنتاج بأيد قليلة من الأغنياء على حساب أغلبية الناس وتآكل حقوق العمال وإضعاف النقابات العمالية وزيادة العمل غير المنظم والمستقر. فمثلاً في أميركا يمتلك أدنى واحد بالمئة من السكان الأثرياء ثروة أكثر مما يمتلكه 90 بالمئة من الفقراء.

بالمحصلة النهائية بدلاً من إطلاق تنمية اقتصادية حقيقية ومستدامة وجلب الرفاهية وانتشال الملايين من الناس من الجوع والبطالة والفقر المدقع، أدى اعتماد الليبرالية الجديدة كإستراتيجية اقتصادية في الكثير من البلدان إلى ازدياد عدد الوفيات والفقر والجوع والمرض وعدم المساواة والخوف من المستقبل وفقدان السيادة الوطنية إلخ.

لكن السؤال الذي يهمنا هو التالي: هل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي يعاني منها المواطن في سورية هي من النوع نفسه ومشابهة للمشكلات التي أنتجتها الليبرالية الجديدة في البلدان الأخرى؟ هذا ما سـنحاول الإجابة عنه في مقال مقبل.

أكاديمي وباحث اقتصادي في جامعة ريونيون الفرنسية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن