أنقرة تمد الجسور نحو دمشق.. وضغوطها تثمر على «الإدارة الذاتية»
| عبد المنعم علي عيسى
من الراجح أن إعلان «الإدارة الذاتية»، التي تلعب دور سلطة أمر واقع في مناطق الجزيرة السورية وهي تستند في قيامها، فحسب، إلى قرابة ألف جندي أميركي لا يزالون يرابطون على الأرض السورية بشكل غير شرعي، عن الموعد الذي حددته لإجراء «انتخابات بلدية» في مناطق سيطرتها يوم الحادي عشر من شهر حزيران الجاري، هو الذي دفع بأنقرة إلى محاولة مد الجسور من جديد نحو دمشق، فالفعل، أي إعلان «الإدارة الذاتية» سابق الذكر، كان من المؤكد أنه يثير الحفيظة التركية بدرجة تحتم ظهورها عبر تراجم سياسية أو عسكرية كنتاج لحال الاحتقان المتولدة عن ذاك الفعل، أو هي تذهب للمزج بين الاثنتين الأمر الذي يمكن القول إن أنقرة قد فضلته في النهاية كما يبدو.
برزت في غضون الأسبوعين الماضيين تصريحات لمسؤولين أتراك وهي تدعو إلى إعادة التواصل مع دمشق من جديد بعد أن هدأت تصريحات كهذه منذ نحو ستة أشهر التي أعقبت حدوث موجة شبيهة بتلك الحاصلة الآن، وفي الذروة من تلك التصريحات جاء تصريح وزير الدفاع التركي يشار غولر، الذي قال: إن بلاده «مستعدة لسحب القوات التركية من الأراضي السورية في حال تأمين الحدود»، وعلى الرغم من أن تصريحاً كهذا لم يأت بجديد قياساً إلى تصريح سابق للرئيس التركي كان قد ذكر فيه أن تأمين الحدود يحتاج إلى «دستور شامل للبلاد، وإجراء انتخابات حرة، وضمان بيئة آمنة لعودة اللاجئين»، ما يعني أن الأمر برمته ليس أكثر من «دوامة» تتخذ شكلاً ما في ظل ظروف معينة، ثم تتخذ شكلاً آخر بتغير تلك الظروف، إلا أن تصريح غولر قد يكون مختلفاً هذه المرة لاعتبارات لها علاقة بالتصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مؤخراً، ففي مقابلة لهذا الأخير مع قناة «خبر ترك» كانت قد أعقبت لقاءه بالرئيس التركي ببغداد قال: إنه «على اتصال دائم مع الرئيسين السوري والتركي»، وأضاف: إن تلك الاتصالات التي يجريها تهدف لـ«تحقيق المصالحة بين البلدين»، ومن المؤكد أن لدى بغداد الكثير مما يمكن أن تقدمه لـ«العربة» الموضوعة على سكة أنقرة – دمشق، والتي تأكد أنها تعاني أنواعاً شتى من العطب بدليل عدم النجاح في إعادة تأهيلها على الرغم من المحاولات الجارية على امتداد مرحلة تزيد على العامين.
بالتزامن مع فعل مد الجسور آنف الذكر صعدت أنقرة من لهجتها تجاه «الإدارة الذاتية»، وقالت: إن الانتخابات البلدية التي تزمع هذه الأخيرة إجراءها «تعني ترسيخاً للشريط الإرهابي على الحدود التركية»، انطلاقاً من تصنيفها لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي – PYD»، الذي تلعب كوادره دور العمود الفقري في «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، كتنظيم «إرهابي» يهدد وحدة وسلامة الأراضي التركية، والراجح هنا أن الضغوط التركية في هذا السياق كانت قد تجاوزت التصريحات من هذا النوع الأخير لتتعداها إلى أفعال أخرى من نوع الرسائل التي لا بد لها وأن تكون قد حملت معطيات أكثر وضوحاً من نوع إعادة التذكير بتصريحات الرئيس التركي التي أطلقها قبل نحو ثلاثة أشهر، ليؤكد من خلالها أن بلاده ستكون خلال الصيف المقبل على موعد مع «إزالة التهديد الإرهابي عن حدودها مع كل من العراق وسورية»، الأمر الذي يمكن لمس نتائجه بوضوح عبر إعلان «المفوضية العليا للانتخابات في الإدارة الذاتية» في بيان نشرته على موقعها يوم الـ6 من حزيران الجاري عن «تأجيل موعد انتخابات البلدية التي كان مقرراً لها أن تجري في الـ11 من حزيران»، قبل أن يضيف البيان: إن تلك الانتخابات سوف «تجري في شهر آب المقبل».
بالعودة إلى تصريحات السوداني سابقة الذكر يمكن القول إن ثمة أمراً آخر يدعو للتأكيد بأن تصريحات يشار غولر قد تكون ذات «مذاق مختلف» هذه المرة، ولربما، وفق العديد من المؤشرات، كانت المحاولة العراقية، التي تستند هذه المرة إلى ملامسة ملف اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية، والذي بات يمثل بالنسبة للسياسة التركية محوراً من الصعب تجاهله، ومشكلة أعيت الساعين عن إيجاد حلول لها، فالتجمعات السكنية التي أقامتها لتوطين اللاجئين لم تحل سوى جزء بسيط منها، ثم إن العديد من هؤلاء عاد أدراجه من حيث أتى لاعتبارات لها علاقة بطبيعة الحياة في تلك التجمعات التي تعاني نقصاً كبيراً في بناها التحتية، والراجح هو أن أنقرة باتت على يقين بأن حلاً لذاك الملف من الصعب تحقيقه من دون المرور بدمشق.
اللافت هنا في هذا السياق هو أن دمشق تجاهلت التصريحات التركية الأخيرة تماماً، الأمر الذي قد يحتمل في تفسيره أمرين اثنين: أولاهما أنها لم تر في تلك التصريحات شيئاً جديداً من النوع الذي يمكن البناء عليه، وثانيهما أنها فضلت التريث بانتظار مواقف أخرى يمكن أن تكون أكثر إيجابية خصوصاً إذا ما استطاعت بغداد – السوداني إحداث خرق في جدران أكدت تجارب السنتين السابقتين أنها عالية بدرجة تحتاج إلى «أدوات» أكثر من تلك التي استخدمت في تلك التجارب.
الأرجح أن أنقرة ستزيد من محاولاتها لطرق الباب السوري في غضون الأشهر القليلة المقبلة انطلاقاً من معطيات عدة أبرزها هو أن المنطقة باتت أشبه ببرميل بارود لا أحد يعلم متى وكيف سينفجر؟
كاتب سوري